هيا نناقش الكفر
كان لأفلاطون ومن بعده تلميذه سقراط موقف شديد التضاد مع الخطابية المشاعرية، إن صح التعبير، أو مع القدرة البلاغية التي كان يدعو لها الصوفيون (وهؤلاء كانوا مجموعة فلسفية سابقة لزمن أفلاطون، التي بدأت فن الخطابة كله كعلم مهم بالنسبة للإغريق) كوسيلة للوصول للناس وإقناعهم. وعلى الرغم من اعتراف الفيلسوفين العظيمين أفلاطون وأرسطو بأهمية فن الإقناع، فإن تمكين العواطف من هذا الفن تأثيراً على الناس بجمال اللغة وسحرها، لا من خلال المنهج التجريبي ولا استخداماً للبرهان البين، كان ضرباً من الكذب الذي لا يغتفر بالنسبة لهذين الفيلسوفين.
اختلف أفلاطون وأرسطو كذلك مع آيسقراط، الذي كان معاصراً لأفلاطون، والذي كان يعتقد أن فن الخطابة هو وسيلة مهمة للنظر في المشكلات التي تكون فيها الحقيقة محتملة وليست مؤكدة تماماً، إلا أنهما قد يتفقان مع ما جاء في كتاب آيسقراط المعنون «ضد الصوفيين» من أنه لا يمكن أبداً تعليم الفضيلة من خلال فن الخطابة. بالنسبة لآيسقراط، قد يكون فعل دراسة فن الخطابة دافعاً لتحسين هذه الفضيلة، وهي عملية تتم بالإقناع لا بالدليل التجريبي، إلا أن هذا الفن بحد ذاته لا يمكن أن يخلق الفضيلة. أفلاطون كان يرى أن فن الخطابة يفترض أن يقدم الحقيقة للأشخاص الأٌقل قدرة عقلية على التفكير والتأمل، وأن هذه الحقيقة يفترض أن تتأتى من البحث الفلسفي والعلمي، أي أنه لا بد أن يكون عليها دليل، وهي المنهجية التي اتبعها تلميذه أرسطو من بعده.
خلاصة الكلام أن كبار فلاسفة الزمن الماضي ومؤسسي علومه العظيمة كانوا جميعاً حساسين تماماً تجاه القدرات البلاغية التي تقنع الآخر دون دليل، ذلك أنه من خلال هذه القدرات البلاغية سينفذ الكثير من الكذب وستنتشر الأفكار التي ربما تكون مريحة ولكنها تخلو تماماً من الذكاء، والأخطر أن الكثير من الخرافات والأساطير ستسيطر وتسود، لربما لفترات طويلة من الزمن، بسبب من حسن سردها وجميل إقناع لغتها. في النهاية، لم تكن القدرة البلاغية قادرة على صنع الفضيلة في نفوس الناس، طبقاً لهؤلاء الفلاسفة، وهذا كان اعتراضهم الأكبر على نتائج استخدامها.
لازمتني هذه الفكرة وأنا أتلقى بعض التعليقات التي تتهمني وغيري تلك التهمة المعلبة بالعمالة للغرب، بأننا نسوق أفكاره الهدامة التي تستهدف، لسبب ما غير معلوم، أطفال المسلمين وشبابهم، والتي يوظف أصحابها، لسبب غير معلوم كذلك، أشخاصاً مغمورين غير مهمين كحالنا. المفارقة تكمن في أن المسلمين هم من بدأوا بنقل الأفكار الفلسفية العظيمة التي تطورت لتصبح مدارس فكرية مؤثرة، كالوجودية، والليبرالية، والعلمانية، والاشتراكية وغيرها، مدارس نضجت عبر بضعة آلاف من السنوات، بدءاً من الحضارات القديمة التي ترجم أهمها، والمتمثلة في كتب الفلاسفة الإغريق، والعرب والمسلمين بحد ذاتهم. فكرة علمنة الدولة قد يكون رائدها مثلاً العالم المسلم ابن رشد، أما الوجودية فقد يكون أعمق من ناقشها هو ابن سينا، فعلام نبخس علماءنا بحد ذاتهم بكل مساهماتهم في مسيرة الفكر الإنساني؟
حقيقة الأمر أنه لا يوجد فكر غربي وفكر شرقي، يوجد فكر بشري ممتد تتناقله البشرية وتتوارثه أجيالها في كل بقاع الأرض. بكل تأكيد هناك ثقافات مختلفة، إلا أنها في معظمها مساهِمة، بشكل أو بآخر وبدرجة أو بأخرى، في تشكيل الفكر البشري بمدارسه المختلفة. ولكن اختصاراً للوقت وحفاظاً على الجهد، ولأن حجج الدنيا كلها لا يمكنها أن تُسقط تهم العمالة، فلنقر إذاً أننا «ناقلو الكفر» ومسربوه لمجتمعاتنا اليوتوبية الفاضلة، هل من ثقة كافية بالأيديولوجية والثقافة والفكر المحليين لأن يتولوا جميعاً مهمة الرد على «الكفر» هذا بدلاً من الضرب في شخص ناقله؟ أليس «الاتهام الشخصي مقابل ترك الرد على الفكرة ضعفاً بالحجة وقلة مروءة، كمن يقتل الرسول ويترك الرسالة التي لم تعجبه»، كما كتب أخي الغالي المغرد أحمد على تويتر؟ هلا تركنا شخوص «الكفار» وناقشنا أفكار الكفر الآن؟
الحقيقة الأفلاطونية والأرسطوية تتطلب إثباتاً ودليلاً، وتنهزم عند اللغة المنمقة جياشة العواطف، والتي يكاد تنميقها وجياشة عواطفها يدينان الفكرة بحد ذاتها التي تعبر عنها هذه اللغة، وكأنها؛ أي الفكرة، على درجة من الضعف حتى إنها تحتاج لكل هذا التنميق الذي يدخل في خانة الكذب، وكل هذا التأثير العاطفي الذي يدخل في خانة العجز عن الإقناع المنطقي. فإذا تركنا التنميق والاستعطاف اللغويين واللعب على مخاوف الناس من كل جديد بإقناعهم أن صاحب الفكرة الجديدة هو مدسوس يستهدف استقرارهم وحيواتهم وثقافتهم ومعتقداتهم، ستصبح لدينا مساحة شاسعة لمناقشة الفكرة والاستفادة منها. حقيقة، حان وقت إهمال «الكفار» ومواجهة «الكفر» بلا تنميق ولا تهييج ولا استعطاف، لربما في عارض هذه المواجهة، نكشف ونكتشف الكثير عن أنفسنا و«حقائقنا» و«الكفار» الذين يلاحقوننا بلا سبب واضح أو خطة منطقية، أقول ربما…