تحميل إغلاق

اعترافات مأجورة

اعترافات مأجورة

لنسجله اعترافا فنستريح ونريح، نحن مأجورون من الغرب، يجندنا “كفاره” لهدم قيم المجتمع ولضرب الدين الإسلامي في عمقه، كأننا نستطيع ذلك. فليكن، وحتى لا نضيع الوقت والجهد كلما طُرح رأي جديد، فتضيع الفكرة في دهاليز تحليل الشخصية، والتي، في حالة صاحبة المقال، هي شخصية غير مهمة أو مؤثرة أصلاً، لنبدأ بالإقرار بأن كل من يكتب نقداً للداخل العربي هو خائن ينشر غسيل عشيرته، وكل من يكتب نقداً للممارسات الدينية أو يذهب لبعد فلسفي أكبر بتحليل نقدي لفكرة الوجود والخلق والقوى العليا ومعنى العلاقة المرسومة بين الرب والإنسان في الأديان الحديثة هو مأجور مجند لنخر قواعد الدين من أسسها، لنجزم جزماً أن هناك فكر تغريبي شرير يستهدف الدين الإسلامي والأمة العربية وأطفالها الصغار وشبابها الأحرار ونسائها الخِفار، وأنني، بكل ما ليس لدي من أهمية وثقل وتأثير، أحد جنود جيش الشيطان هذا. إذا قلبنا هذه الصفحة، هل لنا أن نناقش الأفكار الآن؟

كنت أشاهد مقابلة للكاتب ابراهيم عيسى يتحدث فيها تحديداً عن هذا الموضوع، عن كمية الافتراء التي تٌمارس على صاحب كل رأي مختلف دون حتى عناء تقديم دليل أو تبيان حجة. “أول علامات الهراء” يقول عيسى في برنامج حبر سري، “أنه مالوش أي دليل، ولا أي بينة ولا قرينة حتى، ثم . . . ناقش الموضوع، مش تبقى مشغول بالتشويه والتشهير وخلاص، والمهم أن كل إلى عملوه ما نجحش، لم يمنع أحداً من أن يقول رأيه.” ارتفاع نسبة الهراء هذه تبدت مع الإتاحة التي وفرتها وسائل التواصل لأن يكتب كلِّ ما يريد وبأي صورة يريدها دون عناء الالتزام بأدنى درجات آداب الكتابة أوأخلاقيات الإشارة للآخرين، دون أدنى مسؤولية تجاه الادعاء الذي قد يكون على درجة كبيرة من الرخص أو حتى الخطورة. ما الدليل على أن الكاتب المهم ابراهيم عيسى مثلاً، مثله مثلي أنا المغمورة، كلانا مجند من قِبل الغرب؟ وكيف يجرؤ إنسان على إلقاء تهمة بهذا الحجم على غيره دون تحمل مسؤولية تقديم الحجة والدليل؟

السؤال الأهم من السابق والأكثر كوميدية هو لماذا؟ لماذا ينحى الغرب لتجنيد مخربين وأهل الأمة بحد ذاتهم يقومون بها على خير وجه؟ لماذا يسعون هم لتجنيد أشخاص مغمورين أو مكروهين أو منبوذين من أهل الدار وهؤلاء الأخيرين لم يقصروا أصلاً بحق أنفسهم؟ يكفي أن يفتح أحد “المتآمرين” بعض كتب التراث ليجد فيها كل ما يشتهيه قلبه من عجائب وغرائب ومصائب تكفي لوضع خطة تخريبية أبدية وتزيد، يكفي أن يستعرض أحدهم القراءات الدينية الحالية للموقف الإسلامي-السياسي تجاه المرأة، تجاه غير المسلم، تجاه الخارج عن الإسلام، تجاه المختلف جندرياً ليجد فيها كل ما يبتغيه من مادة يضرب بها العالم العربي الإسلامي دون عناء تجنيد أو توظيف، يكفي أن ينظر العالم الغربي لموقف الشارع الإسلامي من علمائه هو بحد ذاته، المعاصر منهم والقديم، هؤلاء الذين نكَّل بهم هذا العالم وأحرق كتبهم وهمشهم ونبذهم ولا يزال “ليشيم” بحكاياتهم الحزينة الشارع بأكمله، فأي حاجة لدي الغرب المتآمر لمن هم من أمثالنا، ممن بالكاد يجرؤون على البوح بنصف ما يفكرون وبضعف الحذر واللطف التورية والتغطية في الأسلوب الذي يمتهنون؟

حقيقة أي أهمية أو تأثير للعرب والمسلمين اليوم في عالم الاقتصاد والسياسة، في مجالات العلوم البحتة والتطبيقية والعلوم الفلسفية والإنسانية تثير ذعر الغرب لكي يجند هذا العالم المبتعد سنوات ضوئية عن عالمنا كل من هو مهم أوغير مهم استهدافاً لأسس أمة مهزوزة بالكاد تستقيم على ركبتيها الهشتين؟ ما هو المميز والخاص جداً بأبنائنا وشبابنا، عن بقية أبناء وشباب العالم، كي يستهدفه الغرب محاولاً غسل مخه وما الذي سيستفيده، فعلياً وعملياً، من هذا الغسل الممنهج؟ وأخيراً لماذا يُعتَقد أن كل فكرة مختلفة هي دسيسة ومؤامرة حتى أن أصبح لدينا لفظة “بدعة” المحددة الواضحة التي تصف كل نسمة هواء تجديدية تدخل في محيطنا الآسن؟

أحياناً تأتي التهمة مخففة، لتنطوي على أن كل من تعلم في الغرب هو في الواقع جندي لا يدري أنه مجند، مأجور لا يعلم أنه كذلك، تشرَّب أفكار الغرب وعاد محملاً بها مستهدِفاً “الاستقرار الاجتماعي والثبات الأخلاقي والتطور العلمي” الذي “ينعم” به العالم العربي الإسلامي دوناً عن العالم كله. “لن تستريحوا إلا إذا تفشت الخمور وانتشرت الدعارة وخرجت النساء إلى الشوارع” هي الجملة المعلبة التي يتهم بها أصحاب نظرية المؤامرة، العاجزين حقيقة عن رد الحجة ومناقشة الفكرة، كل من يتجرأ فينطق بفكرة مختلفة أو يسائل السائد، غير مدركين أنهم بجملتهم الكليشيهة القبيحة تلك هم يتهمون عالمهم الشرقي المحافظ الذي يعشقون ويشككون في أسسه الأخلاقية والعقائدية في الواقع والتي هي غير قادرة، طبقاً لاستشرافهم المستقبلي، على حماية المجتمع وتثبيت جذوره الأخلاقية.

ولأن كل هذه المحاججة، مهما كان لها من المنطق، لا تأثير لها ولا تغيير سينتج عنها، فليكن إذن أننا مأجورون مجندون نستهدفكم بمجتمعكم “المستقر” وأخلاقياتكم “الرفيعة،” ها نحن نعترف ونقر إنهاءاً لهذا الجدل العقيم. والآن وقد استتب الاعتراف، هل تملكون شجاعة رد الحجة بالحجة بدلاً من محاولة تشويه سمعة “السائل” تشويشاً على سؤاله وإبعاداً للرأي العام عن فحوى نقده وفكرته؟

اترك تعليقاً