هل البذاءة حق؟
كتبت قبل فترة مقالاً بعنوان «لنناضل كنساء، لا كرجال»، الذي هو عنوان يستدعي نقداً مقولة «ابكِ كالنساءِ ملكاً لم تدافع عنه كالرجال» التي قالتها والدة آخر ملوك الأندلس لابنها حسب السردية التاريخية، ذلك أن معظم الأمثال العربية التي تتعامل مع الجنسين، ومعظم الإشارات الاجتماعية التي تتعامل مع «طبيعتهما»، بل وحتى مقولات المديح الموجهة للجنسين وتحديداً النساء، دوماً ما تنطوي على تعظيم للذكورة وتحقير للأنوثة تماماً مثلما تشير المقولة المذكورة آنفاً إلى بكاء النساء المحتقر وحكم الرجال المعظم، وتماماً كما تجري جمل امتداح الأنثى من خلال تشبيهها بالرجل، كأن يقال فلانة عن ألف شارب، أو فلانة أخت رجال، والتي هي كلها امتداحات توعز الصفة الإيجابية للذكر وتوعز مديح الأنثى لتشبهها بتلك الصفة الذكورية.
فيما كتبت في المقال المذكور آنفاً، انتقدت هجوم النساء على النساء تحديداً وأسلوب العنف اللغوي المتبنى من النساء بعضهن تجاه بعض في عارض نضالهن للحصول على الحقوق والحريات المبتغاة. مؤخراً، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، تبنى الحراك النسوي عنفاً لغوياً غير مسبوق في علنيته من النساء بعضهن تجاه بعض، وتجاه الجنس الذكوري بمجمله. العنف الخطابي تجاه الجنس الرجالي يبقى مفهوماً ومبرراً، بل وحتى تعميمات الكراهية التي تصدر من بعض النساء هي في الواقع واضحة في معناها ومغزاها؛ فهي أولاً لا تعمم على الرجال فرداً فرداً، بمعنى إلصاق التهمة بكل من يولد للجنس الذكوري، إنما تترصد الذكورية بمعناها المتأصل العميق في المجتمعات الإنسانية عموماً والشرق أوسطية تحديداً. هذا تعميم يتشابه كثيراً مع تعميم نقد العنصرية البيضاء والتخاطب بعنف تجاهها وفي عارض مقاومتها، ذلك أن هذا التعميم لا يعني أن كل أبيض عنصري، لكنه يعني أن العنصرية البيضاء كلها كريهة بلا استثناء. وثانياً، هذا التعميم تجاه العنصرية الذكورية، هذه التي تتهدد ليس فقط حريات وحقوق النساء ولكن واقعياً سلامتهن وأمنهن وحيواتهن بمجملها، هو نتاج تهديد يبرر بل وأحياناً يتطلب العنف اللغوي وأحياناً الجسدي في مقاومته وحماية النساء منه.
إلا أننا في نضالنا كنساء مخاطبات بعضنا لبعض، لا يجب ولا يستحسن بنا أبداً أن نتبنى الأساليب الذكورية في النقد والتواصل. لقد نسيت بعض الشابات في عارض نضالهن من أجل مفاهيم الحريات والحقوق الاختلافات الحادة الصارخة بيننا كنساء، ليس فقط في ظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، ولكن كذلك في ظروفنا الشخصية النفسية، وفي قدراتنا الروحية والبدنية على المقاومة والمواجهة. تحكم بعض النساء على بعض بعنف أحياناً، ويتخاطبن ناقدات بعضهن بعضاً، متبنيات أسلوب البطل البذيء المنتشر الآن على وسائل التواصل، هذا الذي يعتقد أن نسبة البطولة ترتفع اطراداً ونسبة البذاءة، والتي هي صفة لغوية ذكورية لا يتورع من خلالها الذكر عن تبني أقذع الألفاظ نقداً وهجوماً وتعاركاً؛ ذلك أن ذكورته تحمي سمعته من بذاءته وبل وأحياناً تضيف إليها. بدهياً، في مجتمعاتنا هذا الأسلوب الذكوري البذيء المستحسن من الرجل منبوذ وغير مقبول من المرأة كوسيلة نقد أو مقاومة، فهل وقعت أنا في مصيدة الأحكام الذكورية؟
تلك تحديداً كانت نقطة الاستياء من بعض المتواصلات تجاه المقال؛ أن شعرن أنني أدعو النساء «لرقة المقاومة وأدب النضال»، في حين أن تلك الفكرة ليست فقط ساذجة وخالية من الذكاء، لكنها حقيقة غير ممكنة التطبيق في ظل الظروف القاسية التي تمر بها النساء أو أي إنسان يعاني من هكذا ظلم وقمع تاريخيين مستمرين متلازمين. إحدى المعلقات تساءلت: هل البذاء من حق الرجال وحدهم؟ لماذا لا يحق لي أن أكون بذيئة وعنيفة كذلك؟ تأملت كثيراً في تعليقها، وفي تلك الزاوية من التفكير التي تنظر للبذاءة اليوم على أنها حق وليست خللاً، وسألت نفسي: أي عطب ينتاب فكرتي وأي خطأ وقع فيه نقدي؟
مما لا شك فيه أن البذاءة تعتبر ضرباً من ضروب التعبير، وحقاً من الحقوق الذي يستحق الحرية ويستلزم التحمل، وهي بلا شك ستبقى أسلوباً من أساليب التعبير الإنساني الذي لن ينتهي. لربما تكمن مشكلتي الشخصية في نظرتي للأسلوب العنيف أو البذيء على أنه حق مكروه، أتحمله من الآخرين ولا أقبله من نفسي ولا أتمناه في النضال النسوي، تحديداً من النساء تجاه بعضهن بعضاً. في الحقيقة، لم أفكر قط في العنف الخطابي على أنه حق يسعى إليه الإنسان، ولكن دوماً على أنه أداة مؤذية تتطلب التحمل في عارض حمايتنا لحرية التعبير. وعلى شدة ما أؤمن بتحرير خطاب المرأة من كل العيب والحرام والموانع الدينية والتقاليدية التي تكبل كلماتها وتعابيرها حول مشاعرها وجسدها وغضبها، وبضرورة تطهير الأحكام على خطابها وإن لم يمكن ذلك فبتجاهل هذه الأحكام، لم يخطر في بالي أن أشجع على العنف اللغوي بالمعنى الواضح البحت، مرة أخرى تحديداً من النساء بعضهن لبعض، ذلك أنه عنف غير منتج، يعطل النضال ويذكر بأساليب ذكورية منفرة طالما عانينا نحن النساء منها.
في الخطاب الذكوري، العام والأكاديمي، يتنامى العنف في الأول ويسود الجمود والتعالي اللغوي والمعنوي في الثاني، وهو خطاب تقاومه الدراسات والنضالات النسوية الحالية، حتى إن طرائق البحث الأكاديمية النسوية بدأت تنفر من تصنع الخطاب الأكاديمي الذكوري وتنحى لأسلوب أكثر وضوحاً وقدرة على الوصول لكل أنواع القراء. من أجل الخطاب النسوي هذا ما أدعو إليه، خصوصاً تجاه بعضنا إلى بعض كنساء، ألا نستخدم أسلحة ذكورية قميئة كالعنف اللفظي والاتهام السمعاتي والتهديد بالشرف، وألا ننساق لمعركة لا تشبهنا ولا تصلح لنا داخلياً، بيننا. قد يتطلب النضال المجتمعي العنف بأنواعه، والتعميم بمساوئه، والتمادي والتطاول والتحدي بأقصى التطرفات، ذلك أن عنف التمييز يتطلب أحياناً عنف النضال، لكن الحوار الداخلي بيننا يجب ويفضل أن يعف عن كل ذلك.
أن تعمم امرأة الكراهية على كل الرجال، كما نرى أحياناً في الخطاب المنتشر من بعض النساء، فهو كما ذكرت آنفاً تعميم مبرر المصدر، مفهوم المعنى، فالمعاناة الطويلة والقمع المستمر يمنحان هذا الحق للفئة المكلومة، أن تتخاطب النساء بينهن بخطاب كهذا حاد في عارض تبادلهن الفكر، فهذا هو ما يشكل خطورة في رأيي على النضال النسوي الذي ستتساقط جندياته من الصفوف أمام رشاشات الكلمات القاسية العنيفة والمؤذية مجتمعياً، وذلك ليس في صالحنا مطلقاً.
البذاءة ليست حقاً للرجال محرماً على النساء، بل هي وسيلة تعبير كريهة من كل البشر في الواقع، هي حق تعبيري مكروه يشير إلى مشكلة نفسية أو أيديولوجية أو أخلاقية عميقة عند من يستخدمه، عند النساء المكلومات مثلاً هو إشارة سيكولوجية لعمق المعاناة ولحجم المصاب، لكنه يبقى مبرراً وأحياناً مطلوباً عند الفئة المقموعة، ويبقى منبوذاً مكروهاً ومؤشراً على سوء أخلاق عند الفئة القادرة، عند المستريح الذي لا يستطيع أن يصبح بطلاً سوى بلسانه البذيء.