تحميل إغلاق

عَوْدُ على بدء: قراءة في عودة الصوت الأصولي الإسلامي للمشهد العام في الكويت

عَوْدُ على بدء: قراءة في عودة الصوت الأصولي الإسلامي للمشهد العام في الكويت

أقام اتحاد الشباب الديموقراطي الكويتي ندوة عاجلة بعنوان “في حرية البحث العلمي وخصوصية المؤسسات التعليمية” والتي تم الترتيب لها خلال أربعة وعشرين ساعة بعد أن صدر أمر بإلغاء ندوة “الفيزياء والفلسفة وأسئلة الوجود الكبرى” والتي كان مزمع إقامتها في قسم الفلسفة بجامعة الكويت. كنت متحدثة في الندوة إلى جانب الدكتور علي الطراح، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة الكويت، والذي قدم كلمة قوية وهامة جداً طرحت تساؤلات حول “التراجع المتجدد” في الكويت وقدمت قراءات لهذه الظاهرة هي غاية في الأهمية والخطورة.

يتساءل الدكتور الطراح إن كان ما يحدث اليوم في الكويت من ارتفاع صوت الإسلاميين مرة أخرى بعد أن خفتت أصواتهم وقلت حظوظهم في الفترة السابقة وخصوصاً بعد السقوط المدوي للإخوان المسلمين في مصر إنما هو رد فعل إسلامي سياسي تجاه ما يحدث في دول الخليج المجاورة من انفتاح غير مسبوق. يتساءل الطراح إن كان خطاب الإسلاميين الحالي في الكويت إنما هو تنفيس عن خطاب آخر مكبوت تجاه دول الجوار، وبالأخص المملكة العربية السعودية، وكل مظاهر التحرر والانفتاح فيها والتي تبدو أنها نتاج قرارات سياسية عليا لا تغييرات ثقافية فكرية مجتمعية. ولأن النواب الإسلاميين في الكويت يدركون عجزهم عن توجيه النقد خارجياً، توجهوا بكل عنفوانهم وغضبهم للداخل الكويتي نقداً وهجوماً على الحريات وعودة لخطاب بائد ما عاد له لا التأثير ولا الثقل الذين كانا ذات زمن.

في الواقع، حين صرخ نواب مجلس الأمة الكويتي قبل أسابيع، فجأة ودون سابق إنذار أو مناسبة، بالمطالبة بتطبيق قانون فصل الدراسة المشتركة في جامعة الكويت، وهي الدراسة المفصولة أصلاً في شُعَبها الدراسية، وهو القانون الذي بتت فيه مسبقاً المحكمة الدستورية حكماً بالاكتفاء بعزل الذكور عن الإناث في داخل الصفوف الدراسية بحيث يجلس الذكور على طرف والإناث على الطرف آخر في ذات الفصل، تصدت لهم أول من تصدت كافة القوائم الطلابية، حتى الإسلامية منها، رافضة تماماً تدخلهم في الشؤون الداخلية لمؤسستهم التعليمية. لم يضع هؤلاء النواب في حسبتهم تغير الزمن والأفكار والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة، لم يواكبوا تطور العقول ولم يحسبوا حساب الاختلافات السيكولوجية للجيل الجديد، ولم يضعوا في اعتبارهم تبدل رؤى الشباب تجاه تفعيل الأيديولوجية الدينية المحافظة وتغير نوعية الأساليب التي يرونها مقبولة ومقنعة حين مخاطبتهم. خبط هؤلاء النواب الكلام خبطاً مزعجاً بالنسبة لآذان جيل اعتاد “صخب الصمت”، جيل يسمع من أرجاء الدنيا ولكافة أصواتها في هدوء غرفهم الخاصة ومن خلال تلفوناتهم الصامتة. زعق النواب بكلام قديم بائت، فقد طعمه، وبهتت مكوناته، فما كان من جيل اليوم سوى أن لفظه مباشرة ودون تردد.

لم يعد لهذا الخطاب القديم المنتهية صلاحيته مكان في عالم اليوم، حتى عند أكثر أفراد الجيل الجديد محافظة ويمينية. لربما تتشابه الأفكار المحافِظة التدينية وتتقارب القيم الأخلاقية والسلوكية عند اليمين البشري بمجمله، إلا أن التعبير والتطبيق اختلفا اتساعاً بين يمين اليوم والأمس. شابات وشباب اليوم، حتى أشدهم محافظة، لم يعودوا في أغلبية المواقف، يتقبلون الأوامر أو يتفاعلون مع التهديد أو ينصاعون لفكرة “قداسة” رجال الدين أو “مهابة” العمر المتقدم. لم يعد الشابات والشباب يتجاوبون وفكرة حرمة التفكير أو إثمية التشكك، هم يعيشون في عالم يختلف اتساعاً عن عالم ما قبل عشرين سنة، بل وعالم ما قبل عشر سنوات وربما عالم ما قبل خمس سنوات. أن ترتفع مطالبات بفصلهم إناثاً وذكوراً عن بعضهم البعض فيم هم متعايشين سوياً بلا توقف على وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن يتم إلغاء ندوة تتحدث عن علوم الكون وفكرة الوجود فيما شخصيات عبقرية متطرفة مثل إيلون ماسك تمثل شخصيات بطولية خلابة لهؤلاء الشابات والشباب، وفيما هم وباستمرار يطلعون على ويستمتعون بمشاهدة الأفلام الهوليوودية وقراءة القصص المصورة عن هذه المواضيع تحديداً، هذا كله بالنسبة لهم سذاجة غريبة، أفكار قادمة من عمق الماضي، لا مكان لها في حاضرهم الذي يعيشونه سوياً بلا انقطاع، والذي يستدعون خلاله المعلومة مرئية ومسموعة ومقروءة بأطراف أصابعهم. الإقناع هو ما يمكن أن يحرك شباب اليوم باتجاه أو بعداً عن الأفكار، والفكرة هي التي تحرك احترامهم، لا قداسة منصب ولا مهابة عمر ولا تهديد أو وعيد.

هنا يبقى التساؤل قائماً، ما الذي يدفع مجموعة من نواب مجلس الأمة الكويتي، العريق في ممارسته للديموقراطية، للإقدام على خطوة ساذجة قديمة متكررة باهتة كهذه؟ مما لا شك فيه أن التعاضد الحكومي الإسلامي قد عاد إلى الحياة، وسبحان من يحيي العظام وهي رميم، ففي السياسية لا منطق ولا عقلانية ولا ضمائرية ولا أخلاقية تعلو على صوت المصلحة، ولا مكسب أكبر من مكسب إحراز الولاءات. ولكن لو صحت هذه القراءة، ألم يكن بالإمكان تجديد الخطاب تماشياً مع مرور الزمن وتغير الأجيال؟ ألم يكن هناك أي توجيه لذات الوجوه النيابية بأنه وإن كانت الوجوه ذاتها، فالنطق لابد أن يختلف، والحديث لابد أن يتطور؟ في كل الأحوال بدى التحرك وكأنه محاولة إسعاف انتصارات قديمة منتهية ورغبة في تذوق طعم قوة سابقة بادت ما عادت. إلا أنه، ولابد من الاعتراف، على الرغم من هذه القراءة التخفيفية للوضع الداخلي في الكويت، يبقى المشهد ليس بالحميد أبداً، هو مشهد خبيث بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وهو يحتاج لتعامل جاد وفوري معه.

إنه مأزق فكري سياسي الذي يضعنا فيه المشهد الحالي، وكأن خياراتنا العربية دائماً منحصرة بين السيئ والأسوأ، أتريدونها ديموقراطية تتمخض عن إسلامية متطرفة أم تريدونها شمولية متنورة؟ متى ينصفنا الزمن ونتحصل على خيارات أكثر عدالة؟

اترك تعليقاً