هذا الأمل
لربما من الطبيعي جداً، في ظل الظروف الطارئة التي تمر بها البشرية، أن تظهر الأعراض الجانبية للخوف من الفناء في أنماط غضب وكراهية.. تدافع لفظي يبث مخاوف الناس.. عنصرية ونفور من الآخر، تفعيلاً لهذا الأسلوب البقائي الذي يتبناه كثير من البشر وقت الأزمات المتمثل في مفهوم «أنا وبعدي الطوفان». كلنا خائفون، قلقون، خصوصاً في منطقة الخليج بأحجام دولها الصغيرة وبأعداد المقيمين الأجانب الكبيرة التي تدخل بلدانهم وتقيم أود معظم أعمالهم. ومع كل هذا الاضطراب وما جلبه من مخاوف، ارتفع الحس العنصري في العالم عموماً وانخفضت نسبة العقلانية في النظر للأمور، وانحكرت الإنسانية في زاوية ضيقة، مفسحة المساحة كلها للشراسة دفاعاً عن الحياة والبقاء.
جفت أرواحنا هذه الأيام، يبس عروقنا الخوف، حتى غلبت القسوة على ما عداها. لربما الوضع ليس بهذا الجفاف، لربما هي طبيعتي التي تتأذى من قسوة ردود الأفعال وتتوق لأكثر مما تتحمل الظروف، لربما هي أوضاع متوقعة يقابلها كذلك كثير من الخير والعقلانية التي لا تظهر بوضوح وسط ضباب الخوف والقسوة الثقيل. في الكويت، تتخذ الحكومة إجراءات وقائية ممتازة، توفر الأمور المعيشية المطلوبة، وتتواصل باستمرار لطمأنة الناس والحفاظ على شفافية بث الأخبار. طبعاً، ما زالت أخطاء كثيرة تُرتكب، فالوضع جديد على الكل، لتتداخل كثير من العوامل الضاغطة أحياناً والإجراءات الاحترازية فتقلل من فاعليتها، لكن الطاقم الطبي بكل فئاته متعاون بشكل يثير الإعجاب فعلاً، إجراءات الفحص قوية، والمتابعة الفاعلة لكل من قد يكون معرضاً للخطر مستمرة. البلد صغير، وخيره كثير، وهذا ساعد على إبقاء الوضع تحت السيطرة حتى الآن.
لكن صغر المساحة يقرب الناس بعضهم من بعض، ما يجفل بعضهم عن بعض كذلك، وهذا لا ينطبق فقط على الدول الصغيرة مثل دول الخليج، بل ربما أصبح اليوم ينطبق على العالم أجمع الذي صغر كثيراً بتواصله المستمر وتقاربه المواصلاتي المتطور. اليوم، التوجس من «الآخر» أصبح مرتفعاً، والغضب وأخذ الأمور بمحمل «شخصي» أصبحا يمثلان سياسة الأفراد، بل والدول كذلك، حتى إذا اتخذت دولة إجراء بمنع دخول مواطني دولة أخرى انتشر فيها الوباء، بادلتها الدولة الأخرى الإجراء ذاته، وكأن الموضوع خناقة تتبادل فيها الأطراف الانتقام العنادي. هذا التوجس البشري من بعضنا هو أكثر ما يقلقني ويبث الرعب في نفسي. الوباء سيمر والفيروس سينتهي، وستبقى بقايا الكراهيات والعنصريات تتجذر وتمتد وتتوارثها الأجيال بعد أن تنسى حتى أسباب وظروف تكونها. حين أشاهد أفلام هوليوود حول ديستوبيا المستقبل، أكثر ما يرعبني هو هذا التنبؤ بفقد إنسانيتنا، بإهمالنا المتوقع لمبادئ الرحمة والتعاضد إفساحاً للطريق إلى مفاهيم البقاء والاستمرار في الحياة. إبان هذه التجربة الصعبة التي نعيشها اليوم، يتبين لنا كم هو ممكن وسريع تدهور البشرية بكل مفاهيمها ومُثلها التي كان لها الفضل في تحويلها من مجرد بشرية جينية إلى إنسانية روحانية، كم هو التراجع سريع وقريب، كم هو الفقد متربص بجنسنا، يقف لنا خلف كل منعطف حاد في تاريخنا التطوري القصير.
لكن في هذه الأوقات العصيبة، تتجلى كذلك هذه «العينات» الإنسانية الرائعة، الطواقم الطبية حول العالم مثلاً والتزامهم العظيم بمبادئ المهنة التي يعرضون أنفسهم للخطر من أجلها ويموتون وفاء لها كل يوم، الفرق التطوعية (حركة التطوع في الكويت قوية على سبيل المثال) وما تبثه من مشاعر أمن وراحة بدفعها لاستمرار الحياة وإضفاء شيء من الاعتيادية عليها، الأصوات العقلانية الإنسانية التي لا تزال مستمرة في تذكيرنا أن الحياة ستستمر وأننا سنكون بخير إذا ما حافظنا على مفاهيم الرحمة والتعاضد فيما بيننا، كل هؤلاء يبثون الأمل في إنسانية البشرية لما بعد الفيروس، واليوم لا شيء أهم من هذا الأمل.
أفكر كثيراً في قرّاء «القدس العربي»، متناثرين حول العالم، تجمعهم صفحة، ورقية أو إلكترونية، توحدهم لسويعات، تقربهم، اتفاقاً، اختلافاً، غضباً، تحاباً، لكنها تجمعهم وتشكل منهم أسراً متباعدة مثلها مثل الأسر الحقيقية، باختلافات أفرادها وخلافاتهم. أتمنى أن يكون كل القراء بخير، أن يكون متابعو مقالاتي الأعزاء، الذين صنعوا لي بيتاً في «القدس»، الله ما أحلاها من جملة، «بيت في القدس»، آمنين سالمين. لربما هي فرصة لنضع قسوة الكلمات جانباً، فنتذكر قوة جنسنا دون أن نغفل هوان بقائه وسرعة إمكانية فنائه، نتذكر أن ما يجمعنا هو أكثر مما يفرقنا، وأن غاية المنى في الحقيقة وفي نهاية دورة حياة كل منا، هي حياة طيبة ومغادرة هادئة وبأقل قدر من الألم والمعاناة. أستذكر اليوم الأسماء التي تزور صفحتي ها هنا، أتمنى لهم من خالص قلبي استتباب أمنهم واستقرار صحتهم ووفرة لقمتهم ودفء حوائطهم وبقاء الأسقف الآمنة فوق رؤوسهم. أصلي لكم جميعاً يا أحبة، اغفروا لي أي غضبة سابقة، وأفسحوا صدوركم للغضبات اللاحقة إن اتسع العمر، وكونوا دوماً بخير، علّ المقال القادم يجمعنا على أخبار أجمل.