مورفين
مثلما لا نعرف من أتى أولاً البيضة أم الدجاجة، قد لا نعرف أبداً حقيقة هل يكذب الإعلام العربي ليرضي الناس أم أن الناس لا ترضى سوى بالكذب الإعلامي؟ بلا شك، ليس الكذب سمة الإعلام العربي وحده، فإخفاء الحقائق أو تزيينها أو تحويرها هَمّ صُحبة الإعلام عموماً، لربما هَمّ في عمق الطبيعة البشرية التي تتراءى لنا بكل شرورها وسذاجتها وأطماعها من خلال ما نكتب ونعرض. إلا أن كذب إعلام العالم “كوم” وكذب إعلامنا العربي “كوم” آخر، فالإعلام الغربي بلا شك يكذب، وكذباته كل واحدة أسمن من أختها، لكنه يأخذ بعين الاعتبار ذكاء المتلقين وإن شح ولا يعتمد على سذاجتهم وإن كانت غالبة، يوصل إليهم الخبر وعليه من المساحيق ما يخفي أصله ويغير لونه ويأتي عاليه واطيه.
أما عندنا، فالإعلام واضح، وهذه على الأقل حسنة واحدة تحسب له، عندما يكذب، يكذب بوضوح يخرق عين الشمس، يكذب بشجاعة، لا مساحيق ولا تجميل ولا تحوير، كذب مباشر وصريح وغاية في الأريحية. ولربما بسبب هذه الأريحية، قلّ عدد المشاهدين لقنوات التلفزيون الحكومية الكويتية، وإن كان لا يزال هناك من يرغب في تطميناتها الساذجة، فما عدنا ننتظر خبراً طازجاً منها ولا نصدق معلومة تبث فيها، ليس فقط لأنها تتجاهل الحقائق، ولكن لأنها لا تبذل جهداً ولو قليلا في جعل التحوير والتجاهل مقبولين أو معقولين. وهل ننسى تغني الكثير من الوسائل الإعلامية عندنا بالوحدة الوطنية إبان صراع المعارضين والمشاركين، تغنٍّ بلغ حد بث الحفلات وتصوير السلامات والقبلات تأكيداً على حالة “السمن على العسل الكويتية” في حين كانت الحالة تتدهور من سيئ إلى أسوأ؟ هل ننسى تصريحات مثل “تم كشف جناسي 67 ألفاً من “البدون” ليستنشق الناس الخبر مورفيناً صافياً، يختفي بعدها ولا يتبقى منه سوى “السطلة”؟
وهل تختلف الطبخة مع بقية جنسيات الإعلام العربي؟ لربما أقرب الأمثلة هي حفلة الطبل والزمر التي اشتغلت في كل الإعلام الخليجي من أجل الاتفاقية الأمنية التي انتهت “بالكراسي تتطاير في الهواء” ومن ثم سحب السفراء. وهل نغفل طريقة تعامل الإعلام مع الثورات العربية ولا يزال؟ فمن الإعلام السوري الى الإعلام البحريني، دوراناً في شبه الجزيرة ثم انحرافاً إلى المغرب العربي، يظهر الثوار على أنهم خونة، والحكومات على أنها “مزنوقة”، مضطرة “يا عيني” تضرب في هؤلاء الهمج لتضعهم في أماكنهم وتعيد الأمن لجيرانهم ليرقدوا جميعاً بسلام آمنين. المشكلة أن الصور الحية والفيديوات تصل إلينا جميعاً اليوم من قلب الحدث، الأحداث تضع أصابعها في أعيننا والإعلام يتمشى والطرحة على رأسه: كله تمام، كله جميل، والدنيا ربيع والجو بديع، والمصيبة، أنه مازال لهذا الإعلام مصدقوه ومريدوه.
لكن الفائز وبجدارة هذه الأيام في مسابقة “الهلس” الإعلامي هو الإعلام المصري وبكل أسف، وها هم ثوار الأمس يصبحون حكام اليوم في مصر، والإعلام هو هو، بكذبه الساذج ومبالغاته المريعة وتحويره الركيك. أسقط الإعلام المصري ورقة التوت وصلع، خلع الإعلام راسه ومشى “متسنكحاً” مصرّاً على أن البلد كله المشير السيسي، ليس فيه سوى مريديه والخونة. “طيب شوية” حيادية نذرها في عيون الغرب إذا كان أبناء المنطقة بالنسبة إلى الإعلام “عميان” ولا يستحقون قيمة الرماد يذر في عيونهم. “أبداً، هو كده”، إعلام “أبو أستك”، يمط معك كما تشاء في الكذبة، فلا تسائله عنها مهما بلغت سذاجتها أو وقاحتها، فإن استغربت أو سألت يرتد عليك بجلدة تنسى اسم عائلتك بعدها.
وما قصة الجهاز الطبي الجديد الذي يشخص ويشفي كل أنواع الأمراض، هذا الجهاز الذي تأبى مصر بيعه أو حتى الكشف عنه أمام العالم خوفاً من سرقته، سوى التوتة على كريمة الوقاحة الإعلامية العربية ككل. كم كنت أتمنى لو كانت هذه القصة هي القشة التي قصمت ظهر المشاهدين، فثاروا بعدها ثورة تضع الإعلام في نصابه فلا يتجرأ “يخبَّص” بكلمة قبل أن يحسب لها ألف حساب، إلا أن الناس في كل العالم العربي تجري تشتري الوهم، تملأ منه قدورها، حتى ما عدنا نعرف على من يقع الذنب، الإعلام أم الناس؟ خطأ الكاذب أم خطأ الساذج؟ البيضة أم الدجاجة؟
راح نبيض من القهر، ألا يكفي الكذب وحده حتى تدفسوه في وجوهنا بهذه الوقاحة؟… “طب حطوا عليه شوية ملح”.