موت الملائكة
ظهر رقم مألوف على شاشة تلفوني فسارعت بالإجابة، تعالى صراخ رجولي غريب على الطرف الآخر، سمعته يرمي عليها يمين الطلاق لربما عشر مرات في جملة واحدة سريعة، حاولت إغلاق الخط، إلا أنه بقي مفتوحاً معانداً احترامي لخصوصية الموقف، أسمع صوته المذكر الخشن يصدح من خلال سماعة سيارتي فيملأ فضاءها، يشتمها بأبشع الألفاظ، يأمرها أن تغادر المكان فوراً: «يلا يلا بره، ما أبي أشوفج هني». أصخت السمع أحاول أن أبحث عن صوت نسائي، لفظة اعتراض أو مقاومة، لا شيء بتاتاً.
عندما أُقفل التلفون من الطرف الآخر تفكرت لدقيقة، هل لي أن أتدخل؟ خصوصية الحياة الزوجية مقدسة في مجتمعنا ولربما أمام القانون، حتى إن كلفت هذه الخصوصية المرأة كرامتها وسلامتها وأحياناً حتى حياتها. ذكرت نفسي بواجبي الإنساني البسيط، فأرسلت رسالة تقول: أيها السيد الكريم، إن تجبرت فتذكر جبروت من هم أقوى منك، احترام طرفك الآخر من احترامك لنفسك. مساء ذات اليوم تلقيت اتصالاً من صاحبة التلفون، تنشج كانت بآلامها، بعذاباتها التي تعانيها بشكل شبه يومي، أعلمتني أن تلفونها اتصل بي عن طريق الخطأ وهي تتلقى جرعتها من الإهانة والضرب اليوميين، ولأن الدنيا لا ترحم، فقد أعطت هذه السيدة إضافة إلى زوج عنيف بذيء اللسان، فقرا ووحدة وغياب انتماء.
هي سيدة بدون، تعيش فقرها برضا مع زوج حولته الحياة والظروف إلى وحش عنيف، هي ظاهرة تكررها الحياة أبداً ودائماً، عندما يقهر الرجال ترتفع نسبة تعنيف الزوجات في محاولة من الأزواج لتعويض الإهانات وتنفيس الانهزامات. تتجلى هذه الظاهرة بوضوح إبان الحروب وبعدها، تحديداً بين أفراد الطرف المهزوم الذي يعود رجاله إلى ديارهم مسحوقي الكرامة ليسحقوا بدورهم أرواح وأجساد زوجاتهم في محاولة استرجاع لهذه الرجولة وتلك الكرامة الضائعة. هذه الأسرة البدون لا تعيش حرباً أقل في كل يوم من أيام حياتها، بيت بلا تكييف، أبناء بلا إعالة حقيقية أو مستقبل واضح، زوج بلا عمل وزوجة بلا حياة. بدوري نفست غضبي: تعلمين أنت بالوضع فتكومين الأبناء أحدهم فوق الآخر؟ لمَ فعلت ذلك؟ ردت بانكسار: حسبت الأبناء يصلحون المعطوب يا دكتورة، حسبتهم يرققون قلبه عليّ ويخلصونني من عنفه. استحيت لحظتها من رفاهية ملامي لها، أشرت عليها بالخروج إلى بيت أهلها، فأخبرتني أن بيت الأهل في حال أصعب من حال بيتها، فكيف يستقبلونها بصغارها؟ اقترحت بقلب مكلوم أن تترك الأبناء وتذهب وحدها ولو لفترة حتى تلقن الزوج درساً، فتصاعدت شهقتها قائلة إنها تفضل الموت على أن تترك الصغار. سالت دموعي تحاكي دموعها، رددنا الآهات من خلال موجات الأثير، قلت لها سددت الباب عزيزتي، فقالت هو مسدود منذ أن ولدت أنا كما أنا، بدون، بدون أي حظ.
تقول فيرجينيا وولف إن خلاص النساء يكمن في قتل الملاك الكامن في نفوسنا، فقط عندما نقتل هذا الملاك المضحي أبداً ودائماً، فقط عندما نحب أنفسنا كما نحب أبناءنا وأسرنا، فقط عندما نخشى على أرواحنا كما نخشى على سمعتنا، فقط عندها تكتمل إنسانيتنا ويمكن لنا أن نصبح سعيدات. ويبقى السؤال، من منا تستطيع أن تمد يدها أولاً فتخنق الملاك… وتتحرر؟