معكم دينار؟
“مَعَك ديناراً؟” سأل جدي ابنه، والدي، يوم أن أخبره الأخير أنه قد سجل، على عكس رغبة جدي، لوظيفة محام في الدولة. يقول والدي أن جدي كان يريده أن يسجل في النيابة وكيلاً، وأنه كان يرى العمل الحكومي أضمن وأرفع من العمل الحر. إضافة إلى ذلك، لم يكن لجدي أفضل التصورات تجاه مهنة المحاماة، يبدو أنه كان ينظر لها بالكثير من الريبة والحذر.
“نعم تفضل،” مد والدي يده بالدينار لجدي حسب روايته. أخذ جدي الدينار وفرشه في راحة يده. “كل مرة تستلم ديناراً من عملك في المحاماة، ضعه في راحة يدك وانظر إليه جيداً، تمعن فيه بقوة، واسأل نفسك، هل هو لك؟ هل أتيت ما تستحقه؟” يكمل جدي كما يروي لي والدي “ثم اقلب الدينار على ظهره وتمعن مجدداً وأعد طرح السؤال على نفسك: هل هذا الدينار لي؟” يقول والدي أنه أبداً لم ينس هذه الكلمات من جدي وأنه بقي ليومنا هذا ينظر في كل دينار بقوة وتمعن، مما جعله يعيد الكثير من الدنانير المشبوهة لأصحابها. سمعة والدي في إعادة الدنانير “غير المريحة” طنانة في الواقع، ومن يقصد مكتبه، الذي أصبح اليوم مجموعة كبيرة تحمل اسم جدي في الواقع، يعرف تماماً أن لهذا المكتب آلة فحص دقيقة، تعاين كل دينار على حدة وبصرامة، تماماً كما أوصى جدي في ستينيات القرن الماضي.
وجدي كان رجلاً عصامياً، بنى نفسه بنفسه، وصعد من أن كان يمتلك محل لكي الملابس إلى أن أصبح ضابطاً في الشرطة. يخبرني والدي أن جدي كان يشرف في فترة من الفترات على قسم التنظيف الضخم في وزارة الداخلية، حيث كان لهذا القسم معدات تنظيف وغسالات كثيرة، تعتبر متطورة في زمنها، وقد كان مكانها سطح أحد بنايات الوزارة، إلا أن جدي كان يرفض تنظيف ملابسه فيها، حيث كان يأتي لجدتي بكل ملابسه الرسمية لتنظفها له خشية أن يكون في استعماله لغسالات الوزارة التي يشرف عليها استغلالاً لها. عاش جدي حياة صعبة في البداية ثم راضية لاحقاً، لكنه أبداً لم يقترب من الثراء، ذلك أن عقله لم يكن يعمل بهذا الأسلوب ونفسه كانت تفزع من الشبهة حد العصاب. رحمه الله، ما ترك لوالدي أثمن من عصابه هذا.
الكويت صغيرة. نسمع أحياناً إشاعات تدور حول تخلي والدي عن قضايا كبيرة أو عن رفضه لمربح قانوني سريع رغم أن هذا الكلام لا يدور في بيت العائلة مطلقاً. لا نجرؤ كثيراً على السؤال، فعمل والدي مقدس، أسراره في بئر ليس لها قرار. بالعموم، والدي قليل الكلام، مقتضب التفاصيل، كاره للمديح، وعليه فإننا حين نستفسر منه مستعظمين ومعجبين بموقف ما، سرعان ما يُبَسطه ويُصَغره ويعطيه طابعاً اعتيادياً: “هكذا يجب أن يكون الحال، أتنبهرون مما يجب أن يكون؟” ولوالدي علاقة غريبة بالمال، أحياناً أشعر أنه ينفر منه، لربما بسبب هذا الحمل الثقيل الذي تركه والده على عاتقه، حيث أنه على والدي أن ينظر متمعناً في كل دينار يكسبه ليتأكد من نقائه، أي عبئ هذا؟ وأحياناً أشعر أنه يسعد فقط في صرفه، حين يشتري أشياء لنا، صغيرة وكبيرة، مهمة وتافهة. وأحياناً أشعر أنه يوظفه طبقاً لمبادئ غريبة. على سبيل المثال، حين ذهبت لاستكمال الدراسات العليا في الخارج، اصطحبني والدي في بداية السفر مصراً على تأثيث شقتي هناك بنفسه. أصر أن يعاين أسرة الأولاد وقتها رافضاً رفضاً باتاً أن نشترى أسرة ذات حواف حديدية، حيث كانت تلك الأسرة الملونة هي الموضة وقتها. أخذته على جنب وأسررته “بابا، الأولاد يحبون هذه الأسرة، هي ملونة ولطيفة، دعنا نشتريها” لكنه كان صارماً في رفضه. لاحقاً أخبرني أنه كان يدرس المرحلة الابتدائية في المدرسة الحكومية الداخلية، وأن أَسِرَّة الطلبة كانت كلها حديد، وأنه كان يفزع من نومه في منتصف الليل مرتجفاً من البرد بسبب لمس يده وهو نائماً لحافة السرير الحديدية. كيف ترد على إنسان يحمل طفولته معه هكذا ويصرف أمواله بناء على تجارب صغيرة بعيدة هكذا؟
لا أحد يشبه أبي. كان بإمكانه أن يكون على درجة عالية من الثراء لكنه اختار قاصداً ألا يكون، لربما خاف على نفسه من هذه الحالة المادية، ولربما استثقل تفحص كل دينار عن ظهر قلب. كان بإمكانه أن يكون صارماً غاضباَ خصوصاً وأنه يعمل في مجال لا يرحم، وبأخص الخصوص لأنه تعرض للكثير من المخاطر التي لا يحكي لنا عنها سوى أقل القليل، والتي نسمع البعض منها على شكل إشاعات يرفض هو تداولها. إلا أن أبي بقي هكذا، رجلاً وسطياً حليماً شفيقاً رقيق القلب والروح بالغ العاطفة، أديباً عظيماً يكتب النثر والشعر، فناناً رائعاً يعشق المسرح الذي يخبئ كتبه خلف كتب القانون، رجل قانون وفلسفة وفن، كأنه أسطورة من العصر الإغريقي القديم. لهذه الدنيا معنى لأن أبي فيها، ولها قيمة لأنه علمني كيف أقيمها، وفيها أخلاق ومبادئ لأنه أوعز لي تفحص دنانيرها، سواء المادية أو المعنوية. أرى أبي في كل شيء، وأخشاه في كل خطوة، وأرتعب من حكمه تجاه كل دينار يقع في يدي. ماذا لو لم يكن هذا الدينار نقياً كما يريده أن يكون؟
(1) تعليقات
نور الخالد ي
شكرا لك ولجدك ولوالدك
أنهما مثلي تماما
بارك الله بالنفس المخلص التقيه النقيه
و عسى الله يلطف لديرتي ببركه تلك النفوس
والله. يعيننا على بر الوطن وبروالدين وبر أنفسنا لأجل الوطن
امتنانا ومغفره بالتوفيق