تحميل إغلاق

في الضغائن وخيبات الأمل

في الضغائن وخيبات الأمل

تنطوي الصفحات أحياناً دون أن نشعر، تُغلق أبواب وتُعلن نهايات ونحن بعد، بكل سذاجة، نتصادم والأبواب ظناً أنها ستنفرج، ونستمر في «المشي» في القصة غير قادرين على تصديق نهايتها التي حلت قبل الأوان. لربما ينطوي قِصر عمر الإنسان، المحدد تقريباً بمعدل ثمانين سنة، على جانب رحيم يقنن مع سنوات العمر عدد تجاربه وكمية آلامه وأوجاعه. لو كان مقدراً لنا أن نعيش ثلاثمئة سنة على سبيل المثال، وهو احتمال قائم في المستقبل القريب نوعاً، هل كانت قلوبنا العجيبة الضعيفة تحتمل ثلاثة أضعاف كمية التجارب والأوجاع والفقد وخيبات الأمل؟
خيبة الأمل تلك لربما هي أقسى التجارب الإنسانية. خيبة الأمل تتفوق في حرقتها على الفقد والخيانة والغدر، ولربما هي منطوية في لبها كلها، هي التجربة الأوجع والأكثر استقراراً في نفس الإنسان والأَطْعَم مراراً في حلقه، هي السكين الناعم الذي يأخذ وقته استقطاعاً من روح الإنسان ومن ثقته بنفسه وبالآخرين ومن أفكاره اليومية بساعات مباهجها المحدودة. خيبة الأمل بشعة، أبشع جوانبها هي أنها تدفع بك لتسائل نفسك، قدرتك على تقييم الآخرين، حكمتك وحنكتك في رسم علاقاتك بهم. خيبة الأمل تعلنك فاشلاً، ظالماً كنت أو مظلوماً، وهذا كثير على النفس الإنسانية المسكينة التي لا يؤنسها عن عدميتها سوى لحظات ودها مع وثقتها بالآخرين.
خسارة الآخرين مؤلمة حتى حين تكون في صالح الإنسان، حتى حين يكون وجودهم ثقيلاً متعباً في حياته، تبقى خسارة رغم أرباحها، فقداً لأرواح كانت تساير الإنسان في حياته رغم شرورها، قتلاً لأمل في طيبة خفية أو حسن نية مطوية أو فهم خاطئ للموقف، والتي كلها تبريرات تريح الروح وتطبب الألم. الخسارة هي إعلان لسقوط آخر معاقل الدفاع عن العلاقة، وفقدان الأمل هو رفع لراية بيضاء تلطخت بدماء الغدر وسوء النوايا.
مررت مؤخراً بتجارب أليمة، وكل تجارب الفقد أليمة في رأيي أياً كان المفقود وأياً كانت درجة قربه السابقة، لتخيب آمالي فيمن كنت أرى فيهم شيئاً كبيراً وأنتظر منهم ومن نفسي تجاههم الشيء الكثير. أتصور أن جزءاً كبيراً من التجربة الأليمة هذه يعود لضعف قدراتي على تقدير وفهم شخصيات الآخرين، فعلى الرغم من أنني آخذ وقتي تماماً في بناء الجسور بيني وبين من يدخلون حياتي أو أدخل أنا حياتهم، فتجدني أحتاج لسنوات لبناء العلاقة والثقة، إلا أنني خلال كل هذه السنوات أميز الجميل ولا أرى الكثير من المظلم أو الخطِر الذي قد يتهدد راحتى في قربي من الشخص المعني، كما ولا أنتبه لما قد يتشكل في خلفية هذه العلاقة من ضغائن وشكوك.
أقسى خيبات الأمل التي مررت بها مؤخراً هي أنني بدأت أميز، وبعد سنوات طويلة من المعرفة والعلاقة، وهنا أنا أسرد رؤيتي وأصور زاويتي في هذه الحكاية الإنسانية والتي هي بطبيعتها لا بد أن تكون حكاية قابلة جداً للخطأ، ضعف الموقف الأخلاقي عند المعنيين، وصوليتهم ورغبتهم الجامحة في تحقيق النجاحات ولو على حساب المبدأ و»الكود» الأخلاقي والشفافية في الموقف وحسن العلاقة بالآخر. انهدمت آمال كثيرة كنت أعلقها على شخوصهم التي أسبغت عليها منظومة أخلاقية صارمة دون تقدير مني لاختلاف تقديراتهم ووزنهم هم شخصياً لما هو أخلاقي، وحين تغبشت هذه المنظومة بتصرفات وقرارات وأفعال وردود فعل، كان لا بد أن يقع الفقد ويخيب الأمل ويستتب الألم في الروح، ألم وداع من كان لهم مكان في حياتي ذات يوم، وألم مواجهة ضعف تقديري وسذاجة تقييمي اللذين يبدوان خاصين بي وحدي، دوناً عن كثيرين من حولي الموجودين في الدائرة والذين كانوا قادرين على رؤية ما غاب عني.
لم أكن أعرف أن هناك ضغينة تنمو في الأرواح القريبة، ضغينة أوصلتنا اليوم للفقد وخيبة الأمل. والضغينة مثل الموت، سخيفة وغير ذات معنى، هي شعور بدائي جامح، لم يروضه التحضر أوالعلم أوالفلسفة، تماماً مثلما لم يستطيعوا كلهم أن يفسروا أو يتحكموا في الموت. الضغينة ليست غضباً مبرراً، بل حقد غرائزي يأخذ صاحبه مآخذ مظلمة ويُفقده الكثير من الحب والقرب والعشرة. ومثلما تُفقِد الضغينة صاحبها كل ذلك، هي تُفقِد المستَهدَف منها كل ذلك كذلك، ليجد نفسه في مهب ريح كراهية لا معنى لها وقسوة لا هدف لها سوى أذاه الخالص، تماماً مثلما يفعل الموت بلا سبب أو مبرر.
انطوت الصفحة دون إرادة أو إدراك مني، خاب أملي فأوجعتني وأحرجتني خيبته، أوجعتني بالفقد وأحرجتني بسوء تقديري للأشخاص والأوضاع، إلا أن طي الصفحة لا يخلو من الكثير من راحة اليأس، من راحة التخلص من الاستمرار في المحاولة، محاولة الفهم والإصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. خيبة الأمل، على وجعها، تأتي بحقيقة قطعية نهائية، هؤلاء لا يصلحون لك في حياتك، وحياتك بنمطها ومبادئها وأسلوبها لا تصلح لهم ولا مكان لهم فيها.
الوداع صعب، وداع حقبة، وداع أشخاص، وداع نمط حياة، وداع الأمل في الآخرين بل وحتى وداع الألم في التعامل معهم، كل الوداع صعب، بما في ذلك وداع الألم، ذلك أنه يكسر اعتياداً حياتياً يقدم الكثير من الاستقرار للإنسان رغم أوجاعه. لكنها الحياة بقسوة نهاياتها العدمية، وهل أقسى من النهاية الحتمية لكل ما نحن عليه، هل أقسى من الموت الذي يسرق منا كل شيء؟ نهايات الحقب وغياب الأشخاص ووداع الأنماط الحياتية جزء من تحدي الحياة وعبثيتها، كلها لا مفر منها لحين وصول النهاية الأخيرة.
وداعاً لكم، مأسوفاً على من اعتقدته أنه أنتم، وغير مأسوف على ما أصبحتم عليه..

اترك تعليقاً