مسمار
تحبك الناس مصطفاً، فالمواقف المحايدة ليست من شيمنا، المحايد مساحة عمياء لا يمكن تحديد بقعة لمهاجمته، وهذا ليس مريحاً. الحيادية تثير الشكوك في عالمنا العربي، فألا تكون مصطفاً يعني أن لديك أجندة خفية، فعلى الأقل المصطف ظاهر للعيان، معروف ما له وما عليه، أما هذا العائم في الهواء، فهو مريب مستفز، لا يُعرف له ثبات يمكن أن تلوح باتجاهه النبابيت، ولا موقع معرفا بخطوط طول أو عرض يمكن أن “نمسمره” فيه حتى نعرف بوابته الشرقية من الغربية، ناصبيته من رافضيته، ثوريته من موالاته.
ولطالما نظرت للوضع السوري البحريني اليمني على أنه متواز، هو بالنسبة إلي الاختبار الأكبر لشعوبنا، مقياس رختر لطائفيتها، يفلسف الناس الوضع، يبذلون جهداً ملحوظاً في تبيان الاختلافات، الاصطفافات، التدخلات، يجهدون أنفسهم لتوضيح مدى تباين الحالة السياسية، يبررون الأسى، يفندون إراقة الدماء، يحللون العنف ويزينون العنصريات القبيحة خلفه، وتبقى الحقيقة واضحة، هذه الشعوب بمآسيها تقف على ذات المسطرة، تدفع ثمناً غالياً لتقيس تطرفاتنا وعنصرياتنا، والنتيجة؟ لم ينجح أحد.
في كل البقع تراق الدماء، وفي كل منها نرسم نحن صورة بأصابعنا المغمورة فيها. إنه تدخل إيراني، لا بل هو قمع طائفي، إنها حرب صفوية ضد الخليج، لا بل هي حرب ناصبية ضد محبي آل البيت، المدنيون الأبرياء الذين يموتون هنا هم ضحايا حرب للانتصار على المد الفارسي، المدنيون الأبرياء الذين يموتون هناك هم ضحايا حرب للانتصار على التغلغل الداعشي. نفلسف على حساب الدماء، نسجي ضمائرنا على جثث الصغار، نسبّ ونشتم ونلعن، دون أي ترويض لغضبنا البدائي، دون أن نتفهم أن السباب، وإن استحقه طرف ما، هو لا يصيبه بأذى، لكنه يصيب مسامعنا ومرائينا بتلوث، يحطّ من قدر حوارنا، يهبط بنا من مهتمين بالشأن العام إلى صعاليك رأي، إلى فتوات أذى، إلى قطّاع طرق كل يريد أن يسرق سبق السباب والشتائم من نظيره.
في مساندته غير المشروطة للنظام السوري ولحزب الله، لا يختلف عبدالحميد دشتي عمن يساند بشكل غير مشروط الحرب على اليمن والقمع في البحرين. المصابون كلهم مدنيون أبرياء وإن تغلغل بينهم مرتزقة، والثورات كلها بدأت من الشعوب وإن تلبست، كلها أيضاً، ثوباً طائفياً بغيضاً. إنه ثوب كريه هذا الذي تضعه على أكتافها بعد حين الثورات الشعبية، ولكنه متوقع، فعندما يشتدّ القمع، يلجأ الإنسان إلى طائفته، يتمسك بعباداته ومعتقداته، وعندما يصل إلى حد فقدان الهوية والارتباط، لا يتبقى له سوى الانتماء الديني يرفعه ويتخذه تعريفاً له، فتذوب الثورة في ألسنة الطائفية المرعبة.
وستأتي تعليقات كثيرة عن هذا المقال، دعوني أصففها هاهنا توفيراً لوقت وجهد الأعزاء المرسلين: تسطيح للموضوع، محاولة بائسة لإخفاء طائفيتها، نظرة ساذجة للأوضاع السياسية، محاولة سخيفة للظهور بشكل محايد على حساب الحق (والذي عادة يكون لانتماء المرسل)، كلام عام لا يتطرق للحقائق، مسك للعصا من المنتصف، إرضاء لهذا، بل إرضاء لذاك. وتبقى الحقيقة تسد عين الشمس، المسطرة واحدة، والمقياس واحد، وكلنا نسقط في الاختبار.