سيدة تجلس مقابل مسجد النور في كريستشيرش في نيوزلندا
لم ينجح أحد
لطالما استطاعت المبادئ الغربية الحديثة للتسامح الديني واحترام الحريات والاختلافات مواجهة النعرات العنصرية الفردية أو الجماعية الصغيرة التي كانت تظهر في مجتمعاتها بين حين وآخر، والتي شكلت استثناء للقاعدة الأخلاقية الأساسية للتسامح واحترام الاختلاف والتي ما وصل إليها الغرب إلا بعد ألف سنة من المعاناة المزمنة والدروس المتكررة.
سالت بحور من الدماء في أوروبا من أجل هذه المبادئ الرفيعة ودفع الناس الثمن غاليا ليغرسوها عميقا في مجتمعاتهم، لينتج عنها في النهاية تلك القاعدة السياسية الاجتماعية المصيرية، وهي قاعدة فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية، والتي بدورها يسرت تطبيق مفهوم التسامح وسهلت عملية قبول الآخر.
الدماء سالت في أميركا أيضا لتحقيق الهدف ذاته؛ ففي حين أن أميركا كدولة تأسست على الحدث التاريخي لهروب البروتستانيين من بطش الكاثوليك وعلى المفهوم الأخلاقي “لبوتقة الانصهار” ولاحترام الاختلاف بل واحتوائه (رغم البداية الدموية مع أصحاب الأرض الأصليين). إلا أن هؤلاء المهاجرين، بطبيعتهم البشرية الغرائزية، سرعان ما تطرفوا، لتظهر حركات دينية مثل البيوريتانية لتعود بالبروتستانت الأميركيين إلى الأداء الكاثوليكي العنيف، وليذهب الناس، وخصوصا النساء، ضحايا رخيصة للعنف والتطرف، ولينتهي الأمر، بعد تقديم الأرواح ثمنا باهظا، إلى تعزيز القيم الأخلاقية البقائية (قيم المساعدة على البقاء واستمرار الحياة) من حرية وتسامح وقبول للآخر.
ورغم هذا التاريخ الطويل من الصراع الأخلاقي وما نتج عنه من تجذر عميق للمفاهيم العظيمة المذكورة، إلا أن المثير للعجب هو السرعة الخارقة التي يمكن بها عكس اتجاه عقارب الساعة ونزع جذور هذه المفاهيم والعودة بالأداء الإنساني إلى المربع البدائي الأول. كل ما يحتاجه المجتمع الإنساني هو صرخة، صرخة تخويف من الآخر لتبث في هذا المجتمع الذعر ساريا كالنار في الهشيم، ليتحول هذا الذعر بعد زمن قصير إلى غضب وكراهية، ليتحولان بدورهما وفي وقت قياسي إلى عنف ممتع ترتفع درجة متعته بارتفاع أعداد المنتسبين إليه.
يميل البشر بطبيعتهم للغوغائية إذا ما كانوا في مجموعة كبيرة كما ويميلون للعقلانية والمنطقية إذا ما كانوا أفرادا منفصلين مستقلين، حيث يمكن للفرد وهو بين مجموعة أن يطلق كل الكراهيات والعنصريات وهو مستور بمن حوله، يمكن له أن يتلذذ بالصراخ الحاقد ورد الفعل العنيف الذين يزدادان لذة بمشاركة الجموع وبمشاعر الأمان الناتجة عن إحاطتهم به.
للعنصرية والبغض الإثني والتمييز الديني والعزل الممنهج للآخر المختلف والعنف في التعبير تجاه هؤلاء جميعا دغدغة نفسية لذيذة يستمدها الإنسان من ذاك التهييج للأحاسيس والإطلاق للمشاعر البدائية التي طالما كبتتها مفاهيم التحضر والإنسانية الحديثين.
ولأن هذه اللذة معدية، تجد أن الفرد مهما حسن خلقه، يسهل انجرافه مع الجموع، ليهيج بهياجها ويعنف مع عنفها مطلقا لروحه ورغباته وعنصرياته العنان وهي مستورة بالجموع ومخبوءة في التصرف الجمعي ومحمية بأعداد الأغلبية.
هكذا بدأ الغرب مؤخرا يفقد حصاد قرونه الطويلة، حين بدأت أصوات سياسية واجتماعية مميزة ترتفع بنعرات عنصرية ما كانت تستطيع ذلك سابقا. وحين يصرخ القادة، يردد خلفهم العامة، ليبدأ شيء ما يتغير في نفوس الناس، ولتبدأ الكراهية تحل محل تلك المحبة والقبول للآخر القسريين المفروضين والمغروسين عميقا بحكم، كما ذكرت أعلاه، التجارب السابقة والتاريخ الدموي والرغبة الغرائزية في الحياة واستمرار النوع. لكن يبدو أن غريزة العنصرية يمكنها أن تستقوي أحيانا حتى على غريزة البقاء، لتربح هي المعركة ولتسيل الدماء من جديد.
حادثة نيوزيلاندا البشعة شاهدة على هذه الموجات الإنسانية الغريبة، إذ كيف لهذه النفس الإنسانية التي عانت وتطورت على مدى قرون من الزمان، أن تعود لتنتكس سريعا بعد شهور أو سنوات قليلة من التسويق للكراهية والبغضاء؟ فقط سنوات قليلة من السياسات المدمرة، عزل فيها الناس وبنيت فيها الجدران وصدحت فيها العنصريات جهرا وعلنا في الإعلام، استطاعت أن تهدم قرون طويلة من الكفاح الإنساني من أجل الحريات والحقوق وتمكنت من أن تعكس عقارب ساعة بالكاد وصلت للقرن الواحد والعشرين. الحقد والكراهية دوما أسرع، دوما أقوى، دوما أكثر وأشمل دمارا.
شخصيا لا زلت مؤمنة بالخير الإنساني، لا زلت أود أن أصدق أن الكفاح الغربي للوصول للقيم الإنسانية العالية لم يتدمر بمجمله عند نهايات الجمل المتطرفة وأحاديث الكراهية والتخويف من الآخر.
نعم، هي قرون طويلة مرت من أجل وصول البشرية إلى حيث حضارتها الحقوقية الحالية، ونعم هي سنوات قليلة تلك التي عادت بها “لحركة سيادة البيض” ولبناء جدران عازلة ولتدهور حقوق وحريات المرأة، إلا أن الأمل لا يزال موجودا، والدرس لا يزال مستمرا، وهو الدرس الذي إن لم تلتقطه أوروبا وأميركا فورا وتوقف الأصوات عنصرية لديها من أضعفها إلى أقواها، فإنها ستفقد ما يميزها سريعا، وستتدهور ظروفها الداخلية قبل الخارجية تباعا، وستجد نفسها تقف معنا في صف طالما ألزمتنا هي به، صف الدول المنكوبة بالتطرف والكراهية والانشقاق، ليفتح العالم لها غوانتانامو كما فتحته هي سابقا لبعض من العالم، ولتفقد البشرية بمجملها خطوات إنسانية مهمة ووقت غال وزمن من عمرها القصير لا يعوض.
حادثة نيوزيلاندا هي إنذار كما إنذارات عدة متفرقة توالت بشاعتها منذ بداية القرن الواحد والعشرين، إذا لم ننتبه كبشرية لها، لن يتبقى منا أحد.