تحميل إغلاق

مأتم “فرح”

مأتم “فرح”

تزلزلت أرض ثابتة آمنة تحت أقدامنا نحن نساء الكويت مؤخراً حين تم اختطاف فرح من بيننا هكذا، في وضح النهار، من منتصف شارع مليء بالسيارات المعبأة بالأفراد.

فرح كانت مع أختها وابنتيها، ليهاجمهن المجرم المتوحش بسيارته فيصطدم بسيارتهن ويضطرها للوقوف في الشارع، ثم ليتجه إلى السيارة مجبراً الأخت على النزول من مقعد القيادة ليأخذ هو مكانها ويقود مبتعداً لمسافة بفرح وابنتيها، ثم ليطعن هذا المجرم فرح طعنة مميتة أمام البنتين ويرميها عند باب إحدى المستشفيات الحكومية.

ليس عظم المصيبة أن كل هذا حدث في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع من الناس، إنما عظم المصيبة يتمركز في حقيقة أن فرح أبلغت عن هذا المجرم المتحرش والذي هو من أرباب السوابق مرات عدة في مراكز الشرطة الكويتية دون أن يُتخذ إجراء صارم يذكر بحقه، وأنه سبق وأن تم القبض عليه وإيداعه السجن لأيام قليلة ثم إفلاته، وأن فرح في إحدى المرات تعرضت لضرب مبرح من هذا الجاني دون تداعيات لاعتدائه هذا، وأن كل هذه الأحداث مرت مرور الكرام، دون أن يؤخذ في حق هذا الوحش أي إجراء جدي.

بل بلغ الأمر أن كانت هناك مقاومة لتسجيل بلاغ في مركز الشرطة لصالح فرح وضد المجرم حتى أنها اضطرت لاستخدام الواسطة لتتمكن من فتح محضر بحقه.

للكويت نظام أمني جيد، وللقانون صوته وسلطته في الدولة، إلا أن ارتفاع معدل العنف في الكويت والخليج والمنطقة العربية بعمومها يشكل ظاهرة لا يمكن إنكارها، وليس هناك من ضحايا لهذا العنف أكثر من النساء.

يكمن سبب ذلك في حقيقة أن العوائق الاجتماعية والتقاليدية والعاداتية وأحياناً حتى الدينية لا تزال تقف أمام النساء في طريقهن للاحتماء بالقانون والسلطات الأمنية.

كثيراً ما تتراخى المؤسسات الأمنية في دولنا الخليجية تحديداً والعربية عموماً، وهي مؤسسات بالغة الذكورية والأبوية، مع بلاغات النساء، خصوصاً حين يكون التبليغ ضد رجل وبأخص الخصوص حين يكون هذا الرجل من أفراد عائلتها، والذين عادة، ويا لبشاعة هذه الحقيقة، يكونون هم المصدر الأول للخطر المحدق والعنف الواقع على المرأة.

معظم حالات التعنيف والقمع والاعتداءات الجسدية واللفظية تقع على النساء في داخل محيط أسرهن ومن أقرب المقربين لهن، وفي هذه الحالة يرفع “ذكور” مجتمعاتنا شعارات العيب والفضيحة والمحافظة على السمعة، لتوأد الشكوى قبل أن تولد وليُقطع لسان المُعْتَدى عليها  قبل أن تفلت الآه.

في بلد الأمن والأمان، لم تعد المرأة تشعر بالأمن والأمان، وأين في أرجاء هذه الأرض تشعر النساء في حقيقة الأمر بالأمن والأمان الكاملين؟ وكيف لنا أن نطمئن ونرتاح ونسعد ونعمل وننتمي ونحن نُخطف في الشوارع، ونُضرب في البيوت ويتم التحرش بنا كلاماً وفعلاً في الأماكن العامة ويتم تجاهل صراخنا وشكوانا ومحاولات لجوئنا لقوى الأمن في بلداننا؟ كيف نشعر بمواطنتنا وإنسانيتنا ونستشعر مسؤوليتنا ونلتفت لأدوارنا الخاصة والعامة وقد تكالبت القوانين والأنظمة والمجتمع بكل مؤسساته على إنسانيتنا، فحصرونا جميعاً في زاوية العيب والحرام والفضيحة، وفرضوا علينا عبء السمعة وحملونا ثقل ستر أنفسنا، حيث لم نأت ما يحتاج الستر، وستر الجناة الذكور، حيث ما أتوا سوى ما يستوجب الفضح بكل “جلاجله”؟

كيف نصبح طبيعيات في وضع مشوه، منتجات في بيئة تهديدية، سعيدات كإنسانات، حيث السعادة هي الحد الأدنى من الحق الإنساني، في شوارع وبيوت ومولات ومقار عمل لا ترى فينا سوى بيولوجيتنا التي يستبيحونها بإسم الذكورية المريضة ثم يسترون استباحتها باسم الشرف والسمعة؟ أي وضع مريض معوج كافر بأدنى درجات الحياة الطبيعية هذا الذي نحيا ونعيش؟

نريد خطوطاً ساخنة تتلقى تواصلات النساء بشكل فوري، نريد مراكز إيواء محترمة تحمي المرأة، كرامتها قبل جسدها، وتبعدها عن المخاطر إلى أن تحل مشكلاتها، نريد أجهزة أمنية تأخذ التبليغات النسائية بشكل جدي “مبالغ به”، نعم تتلقى الشكاوى وتتعامل معها بمبالغة وتهويل إلى أن يعتدل وضعنا المائل هذا وإلى أن تتوقف حنفية الدم المكسورة تلك.

نريد إلغاءً للقوانين البائدة القديمة، مثل تلك التي تخفف الأحكام عن الأرذال الذين يقتلون النساء باسم الشرف أو تلك التي تعفي عن الوحوش الذين يتزوجون بضحاياهم، نريد إقرار قوانين جديدة تصعّد العقوبات ضد مرتكبي العنف عموماً، وخصوصاً هؤلاء الذين يوجهون عنفهم ضد النساء وبأخص الخصوص هؤلاء الذين يعنفون نساء أسرهم، هؤلاء المنوطين بحماية النساء، فيستغلون صمت البيوت وستر المجتمع ودكانة الأسرار العائلية والخوف المجتمعي الشديد على السمعة والشرف، فيمعنون بكل نذالة وكل جبن وكل رخص في إيذاء النساء وفي تفريغ كل عقدهم وضعفهم وانكساراتهم وذلهم على أجساد وأرواح الصابرات القانتات في بيوتهن، ألا بئس البشر الرخيص أنتم!

نريد قوانين أحوال شخصية جديدة، ترسل رسالة مساواة وقوة وتوازن مواطنيٍّ لنا مع المواطنين الرجال، نريد أن نكون قويات داخل بيوتنا لنصبح كذلك في الأماكن العامة، فالمرأة الرهينة في بيتها لزوج، لا تستطيع الخروج من زواجها إلا إذا ما رغب هو ولا حقوق لها بعد انفصالها عن “الذكر” إلا بموافقته، لا يمكن أن تكون حرة ولا يمكن أن تكون آمنة ولا يمكن أن تستشعر أي طعم للسعادة في بقية مناحي حياتها.

نريد قوانين أحوال شخصية مدنية، تعاملنا بمواطنتنا، تحترم إراداتنا، وتضعنا بذات مراكز القوى الرجالية. بلا ذلك لن نأمن في يوم. من لا تستشعر مساواتها وأمنها وحرية إرادتها كامرأة داخل بيتها، هل ستستطيع استشعار أي من ذلك خارجه؟

الساكت عن حمّام الدم هذا كالمتفرج وكالمشارك، الكل يده مغموسة في الدم إذا ما لم يبادر بشيء. كم “فرح” بعد سنبكي؟ ولكم “فرح” بعد سنقيم المآتم؟

اترك تعليقاً