لماذا يجب أن نقلق؟
نحن في خطر، ولماذا نحن في خطر؟ ذلك لأن هناك من يحاول أن يغرس في تاريخنا تشوه عظيم مريع سيلاحقنا بلعنته لآخر الزمان. لندعها جانباً، تلك الأسباب والظروف التي خلقت المعضلة الإنسانية والتي أشبعناها شرحاً والتي، رغم ذلك، لا يزال الناس الى درجة كبيرة يجهلونها بسبب التعتيم الحكومي والتسويق القهري المنفرد، دون رأي آخر يقابله، لأفكار وجمل متكررة مصاغة بشكل موسيقي، كأنها أمثال وحكم يحفظها الناس ويكررونها فرحاً ومرحاً وراحة واستراحة من ثقل الموضوع وضغط الضمير. “قاطين جناسيهم، شقوا أوراقهم، محد فقع، خل يردون ديرتهم” كلها جمل أصبحت ترن بألفة وحميمية، كأنها جزء من تراثنا، كأنها حشوة شهية لعجينة أفكارنا، تسهل علينا مضغها، ابتلاعها ثم هضمها رغم كل مرار العجينة ورغم العفن المخضر الواضح الذي نراه على سطحها.
لندع التاريخ الذي لا نريد أن نواجهه والحقائق التي لا نريد أن نكشفها والقاعدة البائدة القديمة لاستحقاق الدم للانتماء والتي لا نستطيع الفكاك منها كلها جانباً ولننظر في الوضع الراهن. القصة حالياً واضحة ومباشرة، هي خطة مرتبة وممنهجة لتحويل كل عديمي الجنسية في الكويت الى مقيمين بصورة غير قانونية. الدليل؟ أول وأهم دليل هو إسم الجهاز المعني بهذه الفئة: “الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية”، إذن بمجرد تسجيلك في الجهاز تصبح مقيم بصورة غير قانونية، عندك أوراق من 1920؟ جدك خدم في الجيش؟ لك شقيق شهيد؟ أعمامك كويتيين؟ والدتك كويتية؟ والدك شارك في حرب 73؟ أنت مقيم بصورة غير قانونية، حالك من حال أي قادم للكويت، ولو كان يوم أمس، ومخالف لقانون الإقامة، الفرق أنه “محظوظ”، له بلد يعيدونه إليه، أنت مقيم من ستين سنة بصورة غير قانونية، ليس لك أوراق تثبت جنسية قبل ذلك وليس لك بصيص أمل لما بعد ذلك، يعني أنت في الظلام، في “التوايلايت زون” في برزخ الحياة الدنيا.
أدلة أخرى كثيرة على هذه الخطة الضعيفة التخطيط، الهزيلة التنفيذ، الطويلة البال (هي قيد التنفيذ منذ ما يزيد على العشر سنوات). كل ورقة يستخرجها البدون، بداية من بطاقته الأمنية التي يعيش بها كل حياته، إلى ورقة المستوصف التي يحتاجها ليدخل على طبيبه، كلها تستدعي توقيعه على تعهد بصحة معلومات الجهاز المركزي وذلك قبل ودون رؤية هذه العلومات. إذا وقع، سيجد جنسية ما مثبتة على أوراقه، إذا لم يوقع سيبقى هائماً فوق سطح الحياة، لا يستطيع أن ينجز أبسط معاملاته اليومية. نظرة سريعة على قانون رئيس مجلس الأمة المقترح تبين أن هذه المنهجية مصاغة تقنيناً في قلب المقترح، والذي ينطوي على ذات الوعود بالإقامة الدائمة وذات التهديد بالحرمان من الحقوق الإنسانية. كل ذلك جانباً، لنأخذها من فم “صاحب الشأن”، السيد صالح الفضالة رئيس الجهاز المركزي الذي هو، أي الجهاز، “ولي أمر البدون” حسب توصيف السيد الفضالة بحد ذاته، والذي قد صرح وفي أكثر من مرة أنه لا يوجد في الكويت فعلياً بدون، إنما يوجد مقيمين بصورة غير قانونية، مخالفين لقانون الإقامة منذ ستين سنة وتزيد.
لكن لماذا يجب أن نقلق نحن الكويتيون؟ لماذا يجب أن نتصدى لهذا الوضع الغريب المعقد؟ لماذا يجب أن تستدعي هذه القضية اهتمام كل فرد فينا؟ من الممكن الحديث حول المأساة الإنسانية وغياب الضمير، من الممكن ذكر بيوت الصفيح والإفقار المتعمد لهذه الفئة والذي تم تنفيذه على مدى عقود من الزمان بالحرمان من التعليم العالي وفرص العمل. من الممكن الاستشهاد بالحق والعدالة والمفاهيم المدنية التي تجعل من سياستنا مع هذه الفئة تبدو وكأنها سياسات عصور مظلمة غاب فيها القانون في ليلة يفتقر فيها بدر المبادئ. لكن دعونا من كلام يتعامل مع المبادئ المجردة ولنتبادل كلاماً يتعامل مع مصالح حقيقية ملموسة مؤكدة.
ليس من مصلحة الكويت أن تستمر قضية البدون طافية على سطح مجتمعها من حيث كونها قضية أمنية ومن حيث تأثيرها على سمعة الكويت العالمية، وهذه قضية لا يمكن أن تنتهي بالأسلوب الحكومي الحالي والتجربة خير برهان، حيث أن مقايضة الأوراق الرسمية بالحقوق الإنسانية هي سياسة فشلت مراراً وتكراراً وعلى مدى عقود من الزمان، وبكل تأكيد ليس من الحصافة بمكان أن نستمر في ذات المنهجية ونتوقع نتائج مختلفة. الكويت تعاني من نقص في تركيبتها السكانية المحلية، والبدون ينحدرون من ذات الأصول، ذات الأسر وذات القبائل، يتكلمون بذات اللغة، يدينون بذات الدين، يتصرفون طبقاً لذات العادات والتقاليد والمفاهيم السائدة، يستثمرون أموالهم، قليلها أو كثيرها في الكويت، لم يعرفوا بلد غير هذه الأرض، وهم ممن تصرف عليهم الكويت تعليمياً على الأقل، أفلا يقودنا المنطق البحت الى التوجه لهم لرفع نسبتنا السكانية ولسد حاجاتنا العملية خصوصاً في مجالي التعليم والتمريض والذين هما الأكثر تخريجاً للبدون، وذلك من خلال ضم هذه الفئة لمجتمعنا الكويتي سواءاً تجنيساً أو، في أضعف الإيمان،احتواءاً مدنياً يحترم الحقوق والوجود الانساني؟ هل يعقل أنه بعد تجربة كتجربة جائحة كورونا، لا تزال تصريحات وزارة الصحة تتضارب حول تسديد مكافآت الطاقم الطبي البدوني والتردد لا يزال يسود الموقف تجاه تعيينهم في الوزارة؟ هل يعقل بعد التسريح المتهور للمقيمين وبأعداد كبيرة والذي نتج عنه نقص كبير في الطاقم التعليمي من بين طواقم العمل الأخرى ألا تستعين الدولة بالبدون في هذا المجال وهم الذين استثمرت الدولة في تعليمهم الى المرحلة الثانوية؟
وأبناء الكويتية من أب بدون؟ هل من مصلحتنا كمجتمع كامل أن تتفرق الأسر وأن تضرب أسافين الطبقية والأصولية في أعماقها؟ هل تنقصنا المشاكل والتفرقات والتحزبات والانقسامات حتى تأتي منهجية حكومية لتثبتها بل ولتحاول أن تقننها في عمق الأسرة النووية التي هي نواة المجتمع المعاصر؟ وماذا عن هذه المرأة الكويتية ومعاناتها؟ هل من مصلحتنا أن تُبعد وتُدفع بعيداً وصولاً لتهجيرها من بلدها بدلاً من ضم أبنائها لهذا البلد واستخدامهم لتدعيم التركيبة السكانية؟
وعلاقاتنا الدبلوماسية؟ هل من مصلحتنا أن توضع الجنسيات جزافاً على أوراق البدون، لتتوالى خطابات السفارات تنفي أن هؤلاء مواطنيها وتتبرم من فرض الكويت لجنسيات دون وجود أدلة أو دون تداول هذه الأدلة، إن وجدت، مع الدول المعنية؟ التفاصيل في هذه الجزئية تحديداً مريعة ومريبة، الا أن هناك حدود، بكل أسف، لما يمكن قوله دون أن يتم استضافة القائل في أحد مباني النيابة.
ومظهرنا أمام الناس؟ لطيف أن تكون لدينا مدن كاملة معزولة، بيوتها صفيح وخدماتها مهملة، وشوارعها تحمل أسماء مرعبة؟ وسمعتنا الحقوقية؟ مقبول أن يتبين للعالم أن الكويت تمنع تعليم أطفال البدون، المولودين أباً لجد، على أرضها من التعليم في مدارسها الحكومية عزلاً في مدارس خاصة هزيلة تكلف الدولة الملايين وتكلف البدون “رسوم امتياز” هي أبعد ما تكون عن الاستحقاق؟
كما هو الوعد، ليس حديث المقال هذا عن الحقوق والمبادئ المجردة (رغم أنها ما يبني إنسانيتنا والتي هي أهم عامل في استمرار نوعنا)، إنما الحديث عن مصلحتنا وسمعتنا والكيفية التي بها نزيد مدخولنا ونقوي تركيبتنا السكانية ونعضد احتياجات سوق عملنا و”نخرس ألسنة” العالم عنا. ها هو المقال الأناني الذي يتناول مصلحتنا أولاً، سمعتنا، قوتنا واستقرارنا الداخليين. إذا لم تكن دوافعنا مبدئية ضمائرية مدنية حقوقية، لتكن دوافعنا انتهازية أنانية. خلصونا دون أن تخلصوا على ما بقي من المنطق، ودون أن تنحروا ما بقي من مبادئ العدالة والإنسانية. حرروا الكويت من هذه الكارثة الحقوقية، احموها ممن يحاول أن يزرع في تاريخها قصة مريبة خربة ستلاحقنا لعنتها الى الأبد. بدون الكويت، في أغلبيتهم العظمى، منا وفينا، بحكم الأصل، بحكم الجذور، بحكم التاريخ، وحتى بحكم مرور الزمن، أفيدوا واستفيدوا ونوروا عتمة هذا الركن في الداخل الكويتي.