للأمهات فقط
لن يفهمني أحد سواك، أنت يا من أرسلت فلذة كبدك بعيداً في العالم الفسيح، تحديداً يا من أرسلت ابنتك، مسافات تفصلنا بعد أن كانت هذه الصغيرات أقرب لنا من حبل الوريد، نحوط عليهن ونحوم حولهن، وما إن يقبلن علينا حتى ننقلب جميعاً عجائز فندعو ونبسمل ونحوقل، نتخيل مشهد أعراسهن، كيف بعد أن كانت هذه الصغيرة همي الأكبر وشغلي الشاغل، أطل في غرفتها مئة مرة في اليوم، أطمئن عليها إذا ما غابت كل دقيقة من كل ساعة، أحوطها وأسجنها وأتمسك بكل لحظات حياتها وكأنها ملك لي، كيف بيدي أضعها في طائرة لتأخذها للطرف الآخر من الكون؟ تقول سيمون دو بيفوار، الناقدة النسوية الفرنسية، ليس المهم هو السعادة ولكن المهم تحقيق العدالة، ولطالما اتبعت هذا المبدأ المؤذي الذي لا يتسبب سوى في اتساع الهوة في القلب. أنا، مثل الكثير من الأمهات حولي، نقرأ الكتب النسوية ونتثقف بثقافة الحريات واحترام الإنسان وتجنب معاملة أبنائنا على أساس الفروق الجندرية، ثم تأتي لحظة فراق الصغيرة، فتخرج كل شرقيتنا على سطح القلب والعقل، وتصبح لحظة الانفصال، لحظة تحقيق العدالة الجندرية هي لحظة إعدام للسعادة في قلوبنا. لن يفهمني أحد سواك، سيدتي الأم لصغيرة بعيدة، لذلك أكتب تنفيساً لك، فأنت لا غيرك من يشاركني حرقتي. أتهاجمك أحلام الليل لتهددك في صغيرتك؟ تهاجمني أحلاماً غريبة، لا أرى فيها الصغيرة في خطر حقيقي، لكنني أراها جائعة أو “بردانة” أو تبكي ضياع لعبتها، أصحو في سرير يتحول قطنه الناعم إلى صوف شائك، ألم شديد في معدتي وكأن نصلاً حاداً قد انغرس فيها. أبث الماء على وجهي وأنا أكاد أرى رأس الخنجر المغروس ولا أستطيع أن أسحبه من جسدي. أبحث في البيت كقط جريح، أموء وحدي في أنصاف ليال لا يدري بها أحد حتى رفيق الدرب الذي يشاركني روحي وأدق تفاصيل أيامي. في الصباح يتحلق السواد تحت عينيّ، يخبرني الطبيب أن لدي نقصاً شديداً في الحديد، يصف الدواء ويوصي بالراحة والأكل الجيد، وهو لا يدرك العلّة ولا يرى الخنجر المغروس يدمي ملابسي وجسدي، أغادره وأنا أتحسب على طبيب لا يرى لواعجي وعدالة لا تريد أن تقف في صف سعادتي.
وأنا، سيدتي الأم، أنا أزيد من هم نفسي وكأنني أعاقبها على التمسك بمبادئها. ما زلت أتذكر لحظة وداعها الأخيرة في المطار لسنتها الثانية، تعلقت برقبة أبيها، “أرجوك بابا مابي أروح”، ما أقدر أفارقكم، يحتضنها والدها فتزداد تعلقاً، تتمسك بياقة دشداشته، مازلت أرى أصابعها تشد كمه، وأنا أقف قربهما، يكاد الألم يخدرني تماماً، أزجرها بنعومة: كوني قوية، أنا ما ربيت بنات تبيع أحلامها ومستقبلها بشوية عواطف، أين صلابتك؟ أحتضنها فينغرس الخنجر أعمق، ترتجف هي في حضني ولا تقول شيئاً، ولا أقول أنا المزيد، ونقف لحظات لا نعرف كيف ننهيها.
عندما صعدنا السيارة انفجرت أنا في زوجي: أعدني للمطار، لا أريد أن أغادره، أنت استعجلت وأنا أريد أن أبقى، ينظر إليّ لا أدري إن كان يشفق على الأم في داخلي أم على العنيدة المتربعة في رأسي. تذهب وأبقى وأذكِّر نفسي بأن أطفالنا ليسوا ملكاً لنا كما يقول جبران، وأذكّر نفسي أن مخاوفي المتضاعفة تتأتى من تفرقة بين شعوري تجاه الولد والبنت يجب ألا تكون ممن تدعي ما أدعيه، وأذكِّر نفسي أن كله يهون من أجل مستقبلها، وأن تلك هي رغبتها إنما أنا أساعدها في لحظات ضعفها، و… و… و، وتذوب كل التذكيرات في ألم حاد، أنظر إلى موقعه، فأرى خنجراً خفياً لا يراه غيري، فكيف يطببني طبيب وهو لا يرى النصل في جسدي؟ قبل يومين خابرتني وهي تبكي، ها هي قد واجهت أول التعليقات العنصرية حول عربيتها، لم تتوقع ما أتى من الأصدقاء المحيطين بها. بين شهقات بكائها خرج تزمت صوتي: العنصرية أسلوب الضعيف، فهل تتركينها تصل إليك؟ هي في كل مكان في الدنيا، اعتبريها تطعيماً لك إزاء القادم والذي سيكون أصعب، ارفعي رأسك واصلبي طولك ولا تضعفي أبداً، أنا لم أربِّ ابنة تضعف بهذا الشكل. دوماً أراني أنتهي بهذه الجملة، كأنني أذكِّر بها نفسي، كأنني أصر على مبادئ توجعني، وفي كل مرة أقدم هذه الصلابة والجفاف، ينغرس النصل أعمق ويرن الألم أعلى وتتراكم الأحلام وتطول فترات الصحو الليلي، أبتلع المزيد من الحبوب الحمراء وأضع بودرة تخفي سواد عينيّ في الصباح وأضحك صباحاتي ولا كأن النصل يختفي في معدتي ولا كأن الألم يطوف حجاً في أطراف جسدي.
الصغيرة تستحق والمبادئ تستحق والحق والعدل يستحقان، لكن، أين سعادتي في كل هذا؟ مجرد فضفضة لك يا من تشاركني ليالي السهر، فارأفي بي واكتمي سري وشاركيني ألمك قد أسرِّي به عن ألمي، واحلمي معي بيوم اللقاء، ففيه تذوب الآلام وبه تطيب الجروح.