تحميل إغلاق

شكوى

شكوى

فلورنسا يا سعادة السفير، فلورنسا تركت خرقاً في قلبي، فضاوة في دواخل النفس لا يمكن لمدينة أخرى أن تملأها. مبانيها وساحاتها التي تقصيك بعظمتها، أزقتها التي تحتويك بدفئها، عراقتها وعصريتها وهما تتهاديان في شوارعها كتفاً بكتف، فتصبح مذهولاً كيف أن شيبة العراقة تشببت وبلا ابتذال بفتنة العصرية وجمالها.

   سعادة السيد سفير إيطاليا في الكويت

أكتب إليك شاكية يا سعادة السفير، أشكو إليك إيطاليا، وتحديداً فلورنسا، تلك المدينة الساحرة التي رشقتني في قلبي فاخترقته وأثخنته بجراح الترجي والشوق، عصرته بالبعد المحتوم والحرمان المقسوم.

 فلورنسا يا سعادة السفير، فلورنسا قاسية في جمالها وثقتها، أصيلة جداً، تكاد تراها بعين خيالك تلبس تاجاً من تاريخ ممتد عريق، ترفل في ثياب فخيمة ترهب زوارها ومريديها، لكنها على شبابها، عاقلة وحكيمة حكمة الشيوخ الكبار، فهمت أن أصلها وفصلها وامتدادها التاريخي لم تعد تزن شيئاً في معادلة تقييمها الحديث، فتلك جميعاً تزين وجهها إلا أنها لن تغطي طباعها إن تعنصرت أو تبجحت أو قست وعنفت.

وعليه، حملت فلورنسا تاريخها على كتفيها الرخاميين، تستعرضه بكل ما فيه، بكل جماله، بكل فنه وعراقته، بكل أحداثه وانتصاراته، إلا أنها لم تنس الهزائم والتطرف والعنصريات، فاستعرضتها كذلك دون خجل أو مواربة، لأنها فهمت أن التاريخ لا يمكن مواربته، لا يمكن إخفاؤه كسرّ عائلة مريب مخجل، التاريخ درس طويل نستعرضه ونتذكره ونتعلم منه كل يوم. لا تجتر فلورنسا تاريخها، بل تعرضه لأهلها وزوارها لتخبرهم بشفتين مرمريتين أنها وأهلها “الفلورينتانيين” كما يسمون أنفسهم، قد تجاوزوا هذا التاريخ وإن لم ينسوه، فصعدوا على سلالمه إلى قمة المجد والجمال والحضارة الحديثة.

فلورنسا يا سعادة السفير، فلورنسا تركت خرقاً في قلبي، فضاوة في دواخل النفس لا يمكن لمدينة أخرى أن تملأها. مبانيها وساحاتها التي تقصيك بعظمتها، أزقتها التي تحتويك بدفئها، عراقتها وعصريتها وهما تتهاديان في شوارعها كتفاً بكتف، فتصبح مذهولاً كيف أن شيبة العراقة تشببت وبلا ابتذال بفتنة العصرية وجمالها. فلورنسا يا سعادة السفير، هي المدينة الوحيدة التي أوقعتني في مزق نفسي ليس له رتق، فلم يسبق أن تخيلت أن أحيا بعيداً عن الكويت في يوم، إلا أنني كلما تخيلت سنوات تقاعدي، رأيتني في فلورنسا، أعيش في شقة من غرفة واحدة أنا وزوجي فوق مكتبة صغيرة هي مشروعي الذي أعتاش منه. أصحو صباحاً وآخذ طريقي إلى مخبز مجاور، فأمر على “الدوومو” أو على “ديفيد” الواقف شاهقاً في ساحة “ديلا سينيوريا”، هكذا بلا تكلف، أمر مرور الكرام على تاريخ من آلاف السنوات، أخطو على حجر وأتنشق هواء أتشارك بهما والماضي، كيف ستكون الحياة، ومن سأكون أنا، وما ستكون أحوالي لو عشت هذه الحياة الغنية بالثقافة والفن والانفتاح والحرية؟

ليس لي نصيب في كل هذا يا سعادة السفير، فأنا كويتية متعلقة روحي بتراب بلدي، يسبح قلبي في سمائها وتتلظى أشواقي لشمسها حتى في أشد حالات غيظها وقيظها، لربما في حياة أخرى، لربما في حلم آخر، لكنني سأظل أنوء شوقاً لهذه المدينة المتغطرسة المتواضعة، العجوز الفتية، العنيفة الرائقة، الرائعة، الفاتنة، قاسية الجمال.

اترك تعليقاً