لقد زاد عن حده
صدر حكم أول درجة في قضية سارة الإدريس المتهمة بالازدراء والمساس وغيرها من تهم الرأي بالبراءة معَقبا بالتوضيح التالي: “المحكمة لم تجد أن المتهمة قصدت بحال من الأحوال الإساءة إلى الدين الإسلامي أو المساس بالرسول أو زوجاته أمهات المؤمنين ولا يمكن معه القول إن المساس بما يعرف اليوم بداعش (تنظيم الدولة الاسلامية) هو مساس بالدين الإسلامي، وإن نقل أي حادثة تاريخية والتعليق عليها ومحاولة ربطها بأحداث معاصرة يشكل جريمة إساءة أو سخرية من أي دين وإلا لتمّت محاسبة كل من يتعلم أو يعلم الدين نفسه، مما ترى معه المحكمة عدم توافر القصد الجنائي لدى المتهمة بشأن التهمتين المنسوبتين لها، وكان الأحرى عدم تقديم المتهمة للمحاكمة لعدم توافر أركان الجريمتين محل الاتهام بشكل ظاهر جلي لانهيار أحد أركانها وهو الركن المعنوي، كي لا يكون ذلك مدعاة لمحاسبة الأفراد على أفكارهم بعرضهم الوقائع التاريخية مقارنة بالواقع المعاصر، إذ إن ناقل الكفر ليس بكافر، وما أثير في موضوع الاتهام الماثل والشكاية بشأنها بلا شك هو محاولة لمحاسبة الناس على ما يفهمونه من قراءتهم للنصوص التاريخية مقارنة ببعض تصرفات من يدّعون الإسلام في هذا الزمان كما هو الحال مع ما يسمى تننظيم الدولة الإسلامية (داعش) دون الاستيضاح من الناقل مع عدم قبول تبريراته أو السعي إلى توضيح المقصود من تلك النصوص وهو أمر خطير، بل إن الشريعة الإسلامية ذاتها جعلت من الاستتابة شرطا لتطبيق الحد، وما حصل مع المتهمة من الأخذ بالشبهة يعارض القاعدة الفقهية التي تقرر درء الحدود بالشبهات، ويعارض أيضاً بشكل صارخ الأصل القانوني الراسخ بأن الشك يفسر لمصلحة المتهم”.
الحكم رائع وقوي وواضح وينتصر لحرية القراءة التاريخية والإسقاط على الحاضر، وهو حكم يدين قراءة النوايا وتأليب النفوس، ويؤكد أن الشبهة أو الشك هما في مصلحة المتهم لا ضده، بل يذهب الحكم إلى القول إنه كان من الأحرى “عدم تقديم المتهمة للمحاكمة”. إلا أن ما حصل قد حصل، قدمت سارة للمحاكمة، ليس لأول مرة، مع احتمال سجنها بسبب رأيها، وتلك كذلك ليست بالمرة الأولى، وسارة مشكلتها مضاعفة، ليس فقط أن سارة تتحدث خارج المألوف، وتبرز برأسها خارج الصف، تقاوم العرف والتراث اللذين لم يعودا صالحين ولا قابلين للهضم، بل سارة امرأة، امرأة تجرأت فرفعت صوتها وبكلام يخالف كلام الرجال الذين أصبحوا هم قوامون على الدين، يقررون حقه من باطله، ومن يقول بغير قولهم، ترفع عليه القضايا، ويجرجر في النيابة، ويستهلك وقته وجهده وطاقته، وتفرّغ مشاعره الآمنة وشعوره بالاستقرار والسلام، فلقد خرج عن الصفّ، ونحن عندما نتحدث عن النقد الديني، لا يوجد أصلاً صف تقف فيه، الكل يجلس عند أقدام القوامين.
وقادمة إليكم د. شيخة الجاسم، إلى الآن مهددة بقضيتين، لأنها، وفي دولة دستورية، قالت إن الدستور صفته أقوى من أي نص ديني. نحن هنا نسجن ولا نقطع اليد، نحبس ولا نرجم، نحن في دولة حرية الاعتقاد فيها مطلقة، أي يمكن للشخص فيها أن يغير معتقده إذا رغب، وكل هذه وغيرها تتعارض بوجه صريح مع نصوص دينية يقدسها القوامون ولا يقبلون أي قراءة تجديدية لها. وما ذنب شيخة أن قرأت دولتها دستورياً؟ كيف كان لها أن تفهم دولتها، دستورية لكن على استحياء؟ قانونية بس يعني نص ونص؟ إلى متى يجرجر الناس في المحاكم بسبب آرائهم؟ وإلى متى يخرق القانون بخروقات تساعد ملّاك الدين على بهدلة الناس وترويعهم؟ الخوف ليس شيمة جيدة ولا تخدم حتى الدكتاتوريين، فالخوف إذا زاد عن حده، ينقلب ضده.