خلال الاحتفال بيوم المرأة العالمي في تركيا
لا تكن داروينيا
هل يمكن أن تتحقق عدالة إنسانية كاملة وحقيقية تحت أنظمة الموروثات الدينية الحالية في العالم؟ هل يمكن لتغيير حقيقي للقيمة الإنسانية أن يتحقق دون تغيير حقيقي كذلك وتفكيكي عميق للمفاهيم الدينية وكل ما أسس لها من مفاهيم اجتماعية وتاريخية ونفسية؟ هل ستتحقق المساواة الحقيقية في يوم بين الرجل والمرأة، المسلم والمسيحي واللاديني، الأبيض والأسود، الغني والفقير، صاحب النسب وفقيره، دون أن تتغير البنية الأساسية الفكرية والاجتماعية للأديان عامة؟
لا أستثني هنا منظومة دينية، ولكنني سأستخدم المنظومة التراثية الإسلامية كمثال لقربها من القراء أولا، ولوضوح مشاكلها الحالية والصورة السلبية المنتشرة بخصوصها في وسائل الإعلام ثانيا، وذلك مقارنة بالأديان الحديثة الأخرى كالمسيحية واليهودية.
إن أحد أهم المبادئ التي بني عليها التشريع الإسلامي هو الفرق الواضح بين الرجل والمرأة؛ فالرجل وصي، والرجل ولي، والرجل هو الذي يدفع لإبرام عقد الزواج وبالتالي هو الذي يقرر إنهائه أو استمراره؛ كما وأن له الحق في تغيير رأيه حتى بعد إنهاء عقد الزواج، في حالات الطلاق الرجعي، بأن يعيد الزوجة إلى عصمته دون حتى إعلامها بذلك. وهذه فكرة مبنية على مفهوم أن لا امرأة يمكن لها أن ترغب في الطلاق، وأن تلك التي تتطلق ستجلس بحسرتها إلى أن يفيها الزوج بتلك الإعادة المباركة لعصمته. كما وأن الفكرة تتأتى من المنطلق الاقتصادي الواضح أنه بما أن الرجل هو الذي دفع لإبرام العقد، فهو من يحق له أن يمسك المتعاقد معه أو يسرحه، وهذا هو القانون الذي يحكم العالم أجمع، صاحب المال هو صاحب القرار.
وعلى الرغم من أن “الناس سواسية كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى” كما ورد في الحديث الشريف الضعيف في الواقع، إلا أن التراث الإسلامي، ومن شخصيات رائدة ورئيسية فيه، يمتلأ بالمفاخرة بالأصل العربي وكذلك بالحسب والنسب ووفرة المال.
ولا أدل على أهمية هذه الجوانب الطبقية في التراث الديني من حقيقة أن العملية التثمينية للعروس تتم على أساسها جميعا، فالمرأة تزوج لحسبها والذي يعد أداة تقييمية لها ولمقدار المهر الذي سيصلها ولطبيعة الأبناء الذين ستقدمهم هي للرجل طالب الزواج. وعلى الرغم من أن النصح الديني يتجه باتجاه تزويج المرأة من الفقير لو حسن دينه، إلا أن التوجه الأقوى هو المحافظة على التكافؤ الاجتماعي والمالي وحتى ذاك المرتبط بالاسم والحسب والنسب.
وفي حين أن الفقه يمتلأ بتشريع عتق الرقبة كوسيلة لتصحيح خطأ في الأداء الديني أو ككفارة عن بعض النواقص التعبدية، إلا أن التراث الديني مبني على قصص الغزوات والحروب التي كانت، من الجانب الآخر، تدفع بأعداد هائلة من السبايا والعبيد إلى داخل المجتمع الإسلامي والذين كانوا يعدون جميعا غنائم مستحقة ومكافآت مستوجبة بل ومصدر دخل رئيسي للعديد من المحاربين، على مدى قرون عدة.
وبما أن التراث الإسلامي لم يأت في مرحلة ما بالتحريم القاطع للعبودية، يبقى بابها مفتوحا وصورها متعددة وتبريراتها قائمة في معاملة الآخرين.
هذه الفكرة تنقلنا مباشرة لفكرة الاختلاف القطعي في قيمة المسلم عن غير المسلم، فالمسلم لا يمكن استعباده، في حين يمكن ذلك مع غير المسلم، والمسلم له دية تختلف عن دية غيره من أصحاب الأديان السماوية أو الحديثة. أما “الكفار” أصحاب الديانات الفلسفية الأخرى فهؤلاء لهم قصة وتشريع مختلفين تماما.
والمسلم يحرم بيته وماله وأهله على الآخرين، في حين أن أموال وأهل غير المسلم حلّ للمسلم خصوصا في حالات الحرب، ولقد استخدم العديد من المسلمين هذه الفكرة خصوصا في تعاملهم المالي والاجتماعي في الغرب، فتجدهم مثلا يملؤون بطاقاتهم الائتمانية بالمصاريف التي لا يسددونها بحجة أن “مال الكفار حلال” كما وأنهم يدخلون في علاقات مع “الغربيات” بحجة أنهن في مقام السبايا والغنائم المستحقة للمسلمين. وفي حين أن هذه قراءة ضيقة جدا وأنانية حتى للتراث الاستشكالي إلا أنه لا يمكن نفي دور هذا التراث والزوايا الضعيفة المفككة فيه في بناء هذا النمط الفكري الشديد التخريب.
ما جاء أعلاه هو مجرد أمثلة بسيطة من بحر واسع من التمييزات الجندرية والطبقية والعرقية بل وحتى اللونية في التراث الديني، هذا غير التمييزات الأخرى التي تمس جوانب غاية في الحساسية والضعف الإنساني كالتمييز ضد مجهولي الآباء أو ضد الأبناء خارج منظومة الزواج وغيرهم.
هذه الأمثلة بمجملها تدل على أن التراث الديني قد بني على أسس تمييزية عميقة التجذر بين الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، ذوي الحسب الرفيع وبسيطي الامتداد العائلي، البيض والسود، معروفي العائلات ومجهوليها، إلى آخر كل هذه التصنيفات البشرية الركيكة التي ما وضعها الإنسان إلا ليستعلي بها على الضعفاء وليخطو من خلالها فوق أجسداهم.
حتى يحدث تغيير حقيقي في مفاهيم التراثات الدينية المختلفة، لا بد من تغيير هذه الأسس الاستشكالية العميقة الفساد الفكري وذلك في كافة الأديان الحديثة المهيمنة. من دون هذا التغيير سيبقى الانقسام والتمييز، بكافة أشكالهما، قائمين، ممعنين في تعذيب بشر دون بشر، مؤسسين لمجتمعات داروينية الأداء، تسمح للقوي بأكل الضعيف والقضاء عليه. وكما قال الدكتور ريتشارد دوكينز ما معناه: أن نعم نحن أتينا بالتطور الدارويني، إلا أننا غير ملزمين، خصوصا بعد وصولنا إلى هذه الدرجة من الوعي الإنساني ومن الشعور الضمائري، أن نعيش في مجتمعات داروينية بحتة. إذن لكي نتطور، نحتاج أن نعود خطوة للوراء ونصلح التراثات المختلفة، ساعتها فقط سنتمكن من أخذ خطوات صحية إنسانية للأمام.