«لا تختر»
هل هي مشكلة فعلاً منع فيلم باربي في بعض الدول العربية؟ هل يستحق الموضوع كل هذه الضجة المحيطة به؟ مما سمعت، ذلك أنه لم تتسنّ لي الفرصة بعد لمشاهدة الفيلم، وهي مشاهدة كلما فكرت فيها تبدو ثقيلة على النفس والوقت، أن الفيلم سطحي وبسيط ويقترب من كونه فيلماً للأطفال، لا توجد إشكاليات حقيقية مباشرة فيه أبعد مما يرد في معظم الأفلام الهوليوودية، لربما شخصية وحيدة ومهمشة هي التي تمثل الموضوع الجندري. بخلاف ذلك، يقدم الفيلم “حياة” الدمية باربي كما تقدمها ألعابها التي شكلت خيالات الأطفال على مدى سنوات عديدة منذ أن عُرضت الدمية في الأسواق في 1959، ثم ينتقل بهذه الحياة لأخرى حقيقية جادة وتمكينية للنساء بكل “أنواعهن”، وفق بعض المقاطع والمراجعات التي وردت حول الفيلم.
لكن باربي لطالما شكلت مشكلة للطرفين النقيضين، للمحافظين الذين ينظرون لها على أنها دمية تُجمِّل التحرر وتسوِّق للجمال والأنوثة والاستمتاع بالحياة، وهي كلها جوانب محظورة على الأنثى في عالم المحافظين، وللحراك النسوي الذي ينظر للدمية على أنها تمثل كل التنميطات السيئة التي طالما سعى الحراك لفض قيودها عن النساء: تقييمهن بالشكل والمظهر، وإثقالهن بمقاييس جمال مستحيلة يحددها السوق الذكوري، وإغراقهن في حياة استهلاكية تشير إلى أن رغبات وأهداف المرأة دائماً مادية وتافهة. إلا أن صناع الدمية، لربما مع اشتداد الموجة الثالثة من الحراك النسوي، بدأوا في محاولة تحسين “رسائلها”، فأعطوها ألواناً مختلفة إشارة لتنوعها العرقي، قدموها في مهن مختلفة كالطبيبة والمحامية، بل وحتى صاغوا بعضها في أوزان وأشكال أكثر واقعية وأقل نمطية “خيالية” عن تلك التي بدأت بها الدمية. قد يمثل الفيلم خطوة إصلاحية أخرى لوجه باربي، واستغلالاً لدمية تعشقها الصغيرات لتقديم رسالة أكثر عمقاً لهن، ويبقى نجاح الرسالة الإصلاحية، إن وجدت، سواء من خلال تعديلات الدمية أو من خلال الفيلم الجديد، متروكاً لتقييم المجتمع ولرد فعل الصغيرات تجاه المادة المقدمة.
ولطالما كانت نظرية Barbie Image إحدى النظريات الاستشكالية التي كنت أقدمها لطلبتي في عارض مناقشة الدراسات النسوية. وعليه فإني شخصياً، وعلى الرغم من كل ما ذكرت آنفاً من محاولات “إصلاحية”، لستُ من “المتعاطفين” مع الدمية أو مع ما تمثله أو حتى مع ما يحاول الفيلم ترميمه من رسائلها. لكنني وبكل تأكيد، أجد أن “محاولات” منع الفيلم، وهي مجرد محاولات فاشلة، مضرة مؤذية، هزلية ضحلة لا معنى حقيقياً لها ولا نتاج ملموساً منها. قرارات منع الفيلم هي قرارات “سوسيوبوليتيكال” تهدف إلى تقديم موقف سياسي للمجتمع يعزز من التقييم الحكومي، قرارات تحاول إبراز وجه محافظ لحكومات شعوب تتفاعل مع بل وتطالب بمثل هذا التقييد الأخلاقي، ولربما هي كذلك قرارات تبادل منفعة بين الحكومات والأصوات المجتمعية والسياسية الزاعقة على وزن أعطيكم المنع اليوم تساندونني في قراراتي غداً. لا توجد مهمة أسهل، في عالم اليوم المتصل على مدار الساعة، من تحميل أي فيلم ومشاهدته في عقر غرفة بيتك، لذا فالمنع لا يستهدف حقيقة محافظة على نشء، ولا صيانة لمجتمع ولا تأميناً لقيم أو مبادئ، المنع هو قرار إداري تكنيكي مدروس ليعطي الحكومات، التي هي أجهزة إدارية صلدة، مكاسب وأرباحاً عامة.
لكن الواقع الحزين يقول إنه حتى هؤلاء المساندين لمفهوم الحرية والمؤمنين بأن الاستسلام للمنع، أي منع لأي مادة ومهما كانت قيمتها، هو خطوة خطيرة أخرى باتجاه مزيد من التقييد وفرض السلطة بأنواعها على المجتمع وأفراده، حتى هؤلاء يجدون في معظمهم أن الموضوع لا يستحق. بالنسبة لشعوب “اختر معاركك” التي ننتمي إليها، يعدّ الدفاع المستمر عن المبدأ رفاهية لا نمتلكها إلا فيما ندر، فنحن شعوب تتعدد مشاكلنا إلى الحد الذي يفرض علينا أن ننتقي منها ولا ندخلها كلها، أن نختار الأهم ثم المهم، لا أن نحارب على كل الجبهات، وطبعاً الحريات وقضايا المرأة دائماً ما تأتي في آخر القائمة، فقبلهما لدينا قضايا سياسية ملحة، قضايا فساد وديكتاتوريات سياسية واعتقالات وتحالفات مريبة وسرقات قد تقضي على الدول المعنية بمن عليها، فمن هذا الذي لديه الوقت والطاقة للدفاع عن الحريات، ومن بين كل الحريات حرية عرض فيلم باربي؟
لو نظرنا مسافة أمامنا إلى حيث يأخذنا المنع والحظر والحجر على الحريات، لو أننا استوعبنا معنى ومغزى وهدف منع فيلم أو كتاب أو عمل فني مهما كانت قيمته من عدمها، لو أننا تمكننا من رؤية الصورة المرعبة الكاملة لشكل وزوايا وأهداف الرقابة، لما اعتبرنا أي منع مهما كانت قيمة مادته بسيطاً، ولما تصورنا الدفاع عن الحريات المتفرقة معارك مجتزأة، ولنظرنا لكل معركة على أنها جزء لا يتجزأ من حرب الحياة والوجود والكرامة الإنسانية، ولاقتطعنا جميعنا الوقت والطاقة “من لحمنا الحي” لخوض هذه الحرب كل يوم وساعة ودقيقة دفاعاً عن أنبوب الأوكسجين هذا: حرياتنا.