قبضايات المنطقة
في أول هجمة من نوعها، ضربت إيران إسرائيل باتجاه الحدود الشمالية الغربية، هضبة الجولان المحتلة، وباتجاه بعض من المناطق الجنوبية مثل قاعدة نيفاتيم العسكرية، منطقة المفاعل النووي ديمونا وأم الرشراش (إيلات) حيث أحد أهم موانئ الاحتلال، والتي عانت مؤخراً بعد هجمات الحوثيين المتكررة لها، في عملية سمّتها «الوعد الحق» والتي أتت رداً على الغارة الإسرائيلية الموجهة للمبنى الملحق بالقنصلية الإيرانية المجاورة للسفارة الإيرانية في دمشق، وهي الغارة التي أودت بحياة 16 شخصاً من بينهم العميد رضا زاهدي وسبعة ضباط آخرين.
اعتبرت إيران ضربتها الأخيرة باتجاه إسرائيل على أنها «تخليص حق»، معلنة أن «الموضوع منتهٍ» بالنسبة لها، على اعتبار أنها مارست حقها في الدفاع عن نفسها طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة للدفاع عن النفس. هذا وقد حذرت إيران من أن ورود أي رد من إسرائيل سيواجه بهجمة أكبر بكثير من تلك التي لـ «الوعد الحق» التي استمرت خمس ساعات، والتي واقعياً لم تسفر عن كثير من الأضرار سوى تلك التي لحقت بسمعة وكرامة الإسرائيليين، إن كان عندهم كرامة. كما أن إيران حذرت الولايات المتحدة من أي تدخل أو رد فعل منها تجاه تلك الضربة؛ أنْ ذلك سيسفر عن استهداف للقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة.
نقطتان ملحوظتان من هذا التحرك: أولاً أن الحضارة الفارسية الطويلة والتاريخ الصراعي السياسي الذي صاحبها قد صنعا وجوداً سياسياً في المنطقة مثيراً للإعجاب في ثقته في نفسه وتعاليه على الصوت الأمريكي العنجهي المغرور ومقاومته للسياسات الغربية وعقوباتها الاقتصادية وتهديداتها العسكرية، إصراراً على الموقف ومقاومة لأي تهديدات. بلا شك، السياسية الإيرانية مثلها مثل كل سياسة في العالم، مليئة بالفيروسات ومبنية على الأمراض الأخلاقية، ولا أقل من مؤشر العلاقات الإيرانية الروسية دليلاً على هذه الفيروسات والأمراض، لكن إذا كانت تلك هي طبيعة المجتمعات البشرية وتلك هي لعباتها السياسية: مريضة، شريرة، مصلحية ومؤذية بطبيعتها، فإيران اليوم لربما من أفضل المجتمعات الشرق أوسطية سياسياً، من حيث الشجاعة والإقدام وتفعيل رد فعل ما على أرض الواقع. من نحترم اليوم ونحن نرى غزة تُباد؟ الدول المطبِّعة، أم تلك التي تصد عن إسرائيل وتسرب لها السلاح والغذاء، أم تلك التي تقاوم وتفعل شيئاً، أي شيء؟
أما الملحوظة الثانية تجاه هذا التحرك فهي تنصب حول كيف أنه تشكّل مؤشر حقيقي على قدرة النظام الإيراني العسكرية وعلى تحكمه في نفسه في الوقت ذاته. عقود طويلة والدول العربية والخليجية تروج لفكرة «العدو الإيراني» إحلالاً له محل العدو الصهيوني، صارخة، بأصوات حكوماتها وشعوبها، حول خطر النظام الإيراني وحول تربصه وحول مؤامراته وحول أسلحته، لتتضح الصورة الحقيقية اليوم لهذا النظام الذي لم يهتز للحظة رغم كل الاتهامات. فلو أراد النظام الإيراني فعلياً شراً مباشراً بالمنطقة، لن يوقفه شيء أو أحد من الداخل الشرقي، بل إن ما قد يوقفه، الذي يبدو اليوم خائفاً متراجعاً، هو الحليف الأمريكي الخاذل المتخاذل. لربما أحد أهم أسباب الشجاعة الرعناء أو الرعونة الشجاعة عند «الفريق» الإيراني هو المنطلق الديني لحكومته التي تبدو «بايِعْتها»، وذلك أنه على الرغم من كل الحسبات السياسية والتكتيكات الاستراتيجية، ذلك أن هناك منطلقاً صغيراً خفياً دفيناً في السياسية الإيرانية مبنياً على الاعتقاد بأنهم على طريق الحق، وأن نصر الله وعد لهم قريب. إنها تلك الفكرة البشرية المدفونة في كل قلب جماعة بشرية دينية مصحوبة بتاريخ حضاري طويل وقدرة سياسية وعسكرية معقولة، والتي خلقت في النهاية هذا الكيان الصادم اللامبالي المتهور المثير للإعجاب.
قريباً سأنقلب، وأتصور كل المعجبين بالتحرك الحالي للنظام الإيراني، انقلاباً أسود عليه؛ فالحكومة الإيرانية الدينية تمثل نظاماً ثيوقراطياً خطيراً مدمراً، فهو نظام يأكل شعبه بالدرجة الأولى، وهو نظام يحرق نساءه، وهو نظام مرعب في رعونته واندفاعه إيماناً بنصر موعود مؤكد، حسب اعتقاده. سأنقلب بسبب كل ما سبق، وسأنقلب لأنني شخصياً لا أرى في العنف حلاً، ولم أكن أعتقد أن الحرب يمكن أن تكون اختياراً، مهما كانت صعوبة الوضع الراهن. لكنني اليوم في اختبار، ذلك أنه وعلى المستوى الشخصي، حيث إننا بأنانيتنا دوماً ما نرى انعكاسات الأحداث العظمى على شخوصنا الدنيا، مثلما اختبرتني الحياة في إيمانياتي وأنا صغيرة بالغزو العراقي للكويت، ها هي تختبرني مجدداً بهذا التدمير الإبادي الشامل المعروض صوتاً وصورة على العالم لغزة، فكيف الحال الآن؟ هل ما زلت أجرؤ على الترويج لفكرة السلمية ومعارضة الرد العسكري؟ اليوم لا، ولكن قريباً سأجرؤ وسأنقلب.
ستعود يوماً الكراهية السياسية لإيران، كما سيعود النقد القاسي لحماس، والتوجس التام من الحوثيين غريبي الأطوار (في أقل ما يوصفون به)، أما اليوم فلا مكان في القلوب سوى للإعجاب بهذا التصدي تحديداً للعدو الأمريكي وذيله الصهيوني، الذي فار وطاش وتعدى كل الحدود بعنجهيته المجنونة. إلى حينها، نقول شكراً لقبضايات المنطقة من إيرانيين وحوثيين وبالدرجة الأولى حمساويين، حيث لا فرصة للمقاومة وبعض الحماية سوى بقبضتكم المخيفة المتسلطة المتهورة الخارجة عن نطاق ما كنا نعتقده معقولاً. شكراً، إلى حين..