تحميل إغلاق

لعيون الحرية

لعيون الحرية

ذكرت في مقالي السابق ديفيد بروكس ومقاله المهم «أنا لست شارلي إيبدو» والذي نشر في النيويورك تايمز في 8 كانون الثاني/ يناير الماضي، حيث تحدث بروكس في المقال عن مشكلة الداخل الأمريكي مع حرية الرأي والتي تتناقض تماماً مع الوجه الخارجي المتحرر الذي تتلبسه السياسة الأمريكية تجاه قضايا الرأي في العالم أجمع. ولقد أشار بروكس في المقال إلى النوعيات المختلفة من البشر وتعدد أساليب إدلائهم بآرائهم متمماً أن كل هذه الأساليب، حتى السيئ الرخيص الاستفزازي منها، تدخل في حيز الرأي الذي تتقدس حريته، بل الذي يمكن الاستفادة من رخصه ووقاحته.
يقول بروكس «يعرف معظمنا أن متسببي الإثارة وغيرهم من الرموز الغريبة يفون بأدوار عامة مفيدة. فالساخرون والمتهكمون يكشفون عن ضعفنا وغرورنا عندنا نشعر بالكِبر. انهم يخرقون الانتفاخ الشخصي للناجحين. هم يوازنون عدم التكافؤ الاجتماعي بأن يهبطوا بالأقوياء الجبارين إلى الأسفل. عندما يكون هؤلاء مؤثرين هم يساعدوننا على مواجهة نقاط ضعفنا بشكل مجتمعي، حيث أن الضحك هو أحد أهم التجارب التي تربط الناس بعضها ببعض». يؤكد بروكس أنه «تقريباً دائماً ما يكون من الخطأ محاولة قمع الحديث أو سن قواعد للحوار أو إقصاء للمتحدثين» وذلك لأنه حسب رأيه فإن أي محاولة لسن قوانين أو قواعد للخطابة فإنها «ستنتهي إلى رقابة فظة وحوار مخنوق». يعتقد بروكس أن محبي الإثارة، الساخرين الأفظاظ، مهمون لأنهم يكشفون لنا غباء المتطرفين، هؤلاء غير قادرين على تعددية الآراء وغير المتمكنين من «رؤية أن دينهم ربما يستحق أعلى درجات التقديس، فإنها حقيقة كذلك أن معظم الأديان هي نوع ما غريبة الأطوار» لذا فإن هؤلاء الساخرين يعلموننا أن نضحك على أنفسنا وأن نراجع حساباتنا وإيمانياتنا الثابتة.
ينتهي مقال بروكس بتأكيد على نقاط غاية في الأهمية لا تدخل عندنا في الوعي العربي الإسلامي حيث يقول الكاتب:
«من حسن الحظ، فإن الآداب الاجتماعية هي أكثر طواعية وليناً من القوانين والقواعد. لقد حافظ معظم المجتمعات على مستويات من الكياسة والاحترام فيم أبقت السبل مفتوحة لهؤلاء خفيفي الظل، غير المهذبين والعدوانيين الوقحين.
في معظم المجتمعات، هناك طاولة للكبار وطاولة للصغار. الأشخاص الذين يقرأون اللوموند أو الجرائد الناطقة باسم المؤسسة يجلسون على طاولة الكبار. المهرجون والحمقى والأشخاص أمثال آن كولتر و بيل ميهر يجلسون على طاولة الصغار. لا يُعطى هؤلاء الاحترام الكامل، الا أنه يتم الاستماع اليهم لأنهم، ومن خلال أسلوبهم الصاروخي المتخبط، يقولون أحياناً أشياء ضرورية لا يقولها أحد بخلافهم.
ان المجتمعات الصحية، بتعبير آخر، لا تقمع الحديث، الا أنهم يوعزون مواقف مختلفة تجاه أنواع مختلفة من الناس. يتم الانصات للباحثين الحكيمين المهذبين بأعلى درجات الاحترام. يتم الإنصات للساخرين بشبه احترام يشوبه شيء من الارتباك. يتم الانصات للعنصريين ومعادي السامية من خلال مصفاة من الخزي وعدم الاحترام. الأشخاص الذين يرغبون في أن يستمع الآخرون اليهم بانتباه يتوجب عليهم أن يجنوا ذلك من خلال سلوكهم». انتهى.
يجد العرب والمسلمون مشكلة كبيرة مع أراء بروكس أعلاه، فعندنا تلعب الدولة دورالأب الذي يهذب ويثيب ويعاقب، في حين أن العرف الاجتماعي عندنا من القوة بمكان بحيث يكون قادراً على الردع والمنع أكثر من ألف قانون، الا أننا كشعوب أبوية دوماً ما نخضع لفكرة النظام أو «الأب الحاكم المطلق» الذي يأمر ويطاع، والحكومة الأم التي تنفذ الوصايا، في حين أن العرف الاجتماعي يمكنه أن يهذب المجتمع تلقائياً بعزله الخارجين عن أعرافه وهذه عقوبة بحد ذاتها أقوى من أقوى القوانين.
كما أننا لا نفرق بين الرأي الذي يستحق الرد أو «الملاحقة» من ذاك السخيف الأحمق الذي لا يستحق سوى التجاهل. كل رأي يثيرنا، كل نقد، حتى وان رخص أسلوبه وتدهورت كلماته، يهمنا ويشعرنا بالإهانة. لا نفرق بين طاولة الكبار وتلك التي للصغار كما يقول بروكس، لا نعي أن هؤلاء الجالسين على طاولة الصغار، وان أزعجونا بصراخهم وآلمونا بتقاذفهم للأشياء، هم يخدمون غرضاً مهماً، فهم، مثل الصغار تماماً، يقولون ما يعتقدون دون تهذيب أو تشذيب، فيواجهوننا، بوقاحة، بنقد مهم لا يجرؤ غيرهم على طرحه. كما أننا لا نعي أن هؤلاء معاقبون أصلاً بالنظرة المجتمعية العامة لهم، تلك التي تضعهم على طاولة الصغار، أولا تكفي تلك من عقوبة؟
المجتمع كفيل، بأساليب اجتماعية انسانية، بمعاقبة مخالفيه، يعزلهم، يصغر من شأنهم، يجعل منهم مادة للكوميديا، يقلل أو ينهي احترامهم، بل وربما يرفض الاختلاط بهم، تنأى الأسر عن مناسبتهم وتزويجهم، تبتعد المؤسسات الكبرى عن توظيفهم، تنفر التجمعات الجادة من وجودهم، وهكذا تتعدد وتتنوع وتتدرج العقوبات الاجتماعية، بما يكفل معاقبة الساخر الوقح وفي ذات الوقت المحافظة على حقه في إبداء رأيه. ان التمسك بهذه المحافظة على حرية الرأي لا تعزى فقط للمحافظة على حق هذا الإنسان المتفرد، بل من خلالها نحافظ على حريات المجتمع بأكمله، والذي ما أن يبدأ برسم خط أحمر حتى تتوالد الخطوط الحمر، متعددة متكاثرة من بعده، فلا يلبث هذا المجتمع أن يقتل الحرية في مهدها. نحن نتحمل الوقاحة لأجل عين أعظم المبادئ الإنسانية: الحرية، ولأجل عين تكرم ألف عين.
ترجمة مقال بروكس كلها لي.

اترك تعليقاً