في مرور الزمن وخيبات الأمل
من منظور فردي أناني صغير لإنسانة تحيا في القرن الحادي والعشرين، ومخاطرة بتنصيب نفسي «الشيء» الذي تدور حوله الأحداث، وليست هذه نواياي مطلقاً، أشعر بغربة كبيرة في عالم اليوم المتوحش المتسارع الهادر بوحشية. لم أكن أتخيل أن الثلث الأخير من حياتي سيمر خلال هكذا إعصارات كتلك التي نمر بها محلياً وعالمياً. في القرن الحادي والعشرين، نشهد مجزرة حقيقية بكل ما للكلمة من معنى، نشهد فيديوهات ونسمع تسجيلات ونراقب الأحداث بأدق وأوجع وأبشع تفاصيلها منقولة لنا إلى أكثر مساحاتنا خصوصية وبطريقة وتفصيل ودقة ومباشَرة غير مسبوقين، لترن صرخات الاستغاثة وتطن انفجارات القنابل وتئز أصوات الطائرات في ذاكرتنا وضمائرنا لتحولنا إلى شيء مختلف عن البشر الطبيعي، إلى كينونات معبأة بالوجع أو مفرغة تماماً من كل إحساس، إلى مخازن آلام وأحزان ومخاوف متحركة، أو إلى روبوتات مستمرة في معيشتها بلا رد فعل طبيعي متسق وعمق المصيبة. في كلتا الحالتين، نحن لسنا كبشر ما قبل القرن الحادي والعشرين، نحن أشياء مختلفة الآن، كائنات متحولة، إما بآلام وأحزان وعذابات ضمير تشوه أرواحنا، أو بلا مبالاة تجمدها تماماً.
في غضون أشهر كل شيء تغير، كل مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية والقيم الإنسانية التي زينت بها الحكومات والمؤسسات الغربية وجهها، بما فيها مؤسساتها الأكاديمية، ذابت كلياً، كاشفة عن وجه بشع شرس مليء بالأنياب. كل سنوات نقل التجربة الغربية، كل سنوات العمل مع المؤسسات الإنسانية، كل الصفحات التي قرأت، كل الأحاديث التي تداولت، كل اللقاءات والاجتماعات، كل المؤتمرات والندوات التي حضرت، كل هذه كذبة كبيرة، كومة من خيبات الأمل أرصها الآن فوق بعضها وأجلس على تلها.
حياتي العملية تغيرت منذ بضع سنوات، طريقة العمل، درجة شفافيته، مقدار الأخلاقيات التي تحكمه وتحدد مساره، كل شيء تغير، اصطبغ بصبغة الزمن الحاضر الذي أعيشه، ولكنني لست صنيعته ولا أفكر بمنطقه. أخبرت نفسي كثيراً أن تلك ليست الدنيا تسوء أحوالها، إنما أنا أترك مرحلة شبابها، أن تلك هي ليست الدنيا المتغيرة فقط ولكنها كذلك أنا الثابتة بعناد، لا أميل مع الريح ولا ألين مع درجات الحرارة المرتفعة، أوليس من المتوقع أن تكسر الرياح هذا العنيد المتصلب في وجهها بإصرار وغباء؟
أحياناً تبدو الدنيا جادة حثيثاً للأمام، وأحياناً تبدو متراجعة إصراراً للخلف، وفي كل الأحوال أقف كالبلهاء في مكاني، لا أنا قادرة على أخذ خطوة للأمام، ولا أنا قابلة بالعودة للخلف.
بزغ مؤخراً في العالم أجمع خطاب عنصري بغيض، يعلي الأصل والفصل، ويأخذ في الحسبان العرق والانتماء الإثني، وكأن العالم يترك كل تطوراته الاجتماعية والحضارية والعلمية ليعود بظهره للخلف. كما وتبدى مؤخراً في العالم أجمع خطاب هلامي عبيط، يصنع حيوات زائفة على شاشات الهواتف المحمولة، ويسرق حتى أكثر الناس جدية وأفضلهم موهبة من جديتهم وموهبتهم، فيدفع بهم لتسويق أنفسهم عبر مواد مصورة فارغة، تروج لحكاياتهم الكاذبة وتستعبد جهودهم في خدمة الشركات العالمية المتوحشة بماركاتها الفارهة التي تستعبد أطفال العالم بالعمل المضني مكبلين بفقر وجوع متوحشين، وهي ذاتها التي تمول الحروب، وحالياً تحيل أطفال غزة أشلاء؛ وكأن العالم، استعانة بتطوراته الاجتماعية والحضارية والعلمية، يندفع مخموراً مشوشاً للأمام.
الآن يتبدى أن هذا التدهور لم يكن سوى البداية، لم يكن سوى نذير مبدئي، نفخة الصور الأولى. بعدها، من منظور شخصي، توالت الخسارات وانخفضت قيمة أسهم كل ما كنت أؤمن به وأقدسه وألتزم به، وارتفعت قيمة أسهم كل ما كنت أنفر منه وأحاربه. كل ما أقيم به نفسي وأعرّفها به اجتماعياً وسياسياً في المحيط الكويتي والعربي لم يعد ممكناً، لم يعد مقبولاً، بل وعند الكثيرين لم يعد أخلاقياً. فرغت الحياة من كل ما كان يعطيها معنى ومتنفساً، أصبحنا ننام ونصحو ونأكل من أجل النوم والصحو والأكل، دون أن يكون لهذه الأفعال البيولوجية هدف أسمى في تحريك العقل واستفزاز الفعل الحر والكلمة الصادقة. الأدهى والأمر هو تحول صنع الأخلاق الآن إلى مسابقة، يفوز بها من يصور هذه الأخلاق في أبهى صورة، ليس المهم الجوهر، المهم «تطلع الصورة حلوة».
لربما، لي شخصياً وبمنظور تحليلي أناني، المشكلة هي أنا، وأنا هي المشكلة. لربما الأزمة تكمن في ساقيّ غير القادرتين على مجاراة الإيقاع، في رئتيّ غير القادرتين على استنشاق «هذا» الهواء. أتصفح إنستغرام وأتساءل، هذه الشابة التي كانت واعدة ذات يوم أكاديمياً وفنياً والتي تحولت اليوم إلى «فاشينيستا» تستعرض الملابس والكافيهات، أن هل هي المشكلة، أم هو التحول الطبيعي للزمن وظروفه؟ هل هي انعكاس للخسارات أو تمثيل للمتغيرات؟ هل أنطلق في تقييمي من منظومة قيم تجعلني قادرة واقعياً على تحليل الخسائر، أم أنني أنطلق من ماض فات ومات وبذهنية جيل فاته القطار تجعلني عاجزة عن فهم المتغيرات؟ حقيقة، لا أدري.
لكن لو شككت في نفسي وفي كل المتغيرات التي أراها تتدهور من حولي، هل أشك في التدهور الأخلاقي الغربي تجاه غزة وفلسطين؟ هل يمكن تبريرهما على أنهما متغيرات زمنية؟ هل قبول الحكومات الغربية وصمت الحكومات العربية وتطبيع الحكومات الشرق أوسطية كلها متغيرات زمنية مستحقة أو تراجعات قيمية وأخلاقية وإنسانية منذرة بشر مستطير؟ هل يمكن أن يأخذ العالم، بعد شهوده مجزرة غزة بأدق تفاصيلها وبكل لحظاتها، وبكافة صورها وصرخاتها، وبتمام قبح وبشاعة ووحشية صهيونيتها، أي خطوة إيجابية للأمام؟ هل يمكن تخيل أن عالماً شهد هكذا مجزرة فانطبعت في ذاكرته البشرية، أن عالماً سكت عن هكذا مجزرة فوُشِمت في ضميره الإنساني… هل يمكن أن يصبح عالماً أفضل؟ هل يمكن أن تخرج البشرية من هذه المحنة؟