تحميل إغلاق

«صراع العروش»

«صراع العروش»

نتعلم من الصغار شيئاً كل يوم. في حواري مع بعض الشابات اليافعات، دار حديث حول صورة المرأة في المجتمع العربي من حيث عدم راحة هذا المجتمع مع ظهور المرأة العام أو حوزها للشهرة أو مساهمتها في أي إنتاج فني أو أدبي يجعلها عرضة للأضواء أو يخلطها بشكل كبير بالجنس الآخر. كان لإحدى الشابات نظرية تقول إن نفور المجتمع من فكرة بروز المرأة أو من فكرة عملها أو من فكرة مشاركتها عموماً في الحياة العامة مرده إلى تلك «الوظيفة» الأقدم التي أجبرت المرأة على ممارستها، وهذا لعوز أو غياب الفرص، والضعف العام لها كإنسان في مجتمعها- ألا وهي وظيفة بيع الجسد. ترى هذه الشابة أن هذه الوظيفة الأولى لوثت العقول تجاه فكرة بروز المرأة، وصنعت من كل وجه نسائي عام مادة للجدل والشك، وصبغت كل وظيفة يمكن أن تمتهنها المرأة بصبغة من ذاكرة التاريخ، حين كان كل خروج للمرأة من منزلها مشكوكاً فيه، وكل مصدر دخل مستقل لها هو إشارة على تحررها المشبوه.
لا أدري إن كانت أقدم وظيفة في التاريخ هي فعلياً سبب تلويث مفهوم عمل المرأة خارج محيط منزلها، وإن كانت فكرة تستحق الدراسة. ولا أعتقد أننا يمكن أن نحمّل هذه الوظيفة، التي كانت أحد الشواهد على القمع المجتمعي والقهر النفسي والإنساني الذي تعرضت له المرأة على مر الأزمنة، المسؤولية الكاملة عن المنظور السلبي للمرأة خارج بيتها، فهذا المنظور يذهب عميقاً وبعيداً في التاريخ، لربما إلى زمن ما قبل الهوموسيبيان، حين كان الذكر الأقوى جسدياً هو المسؤول عن تأمين الطعام والحماية، وبالتالي هو القائد في مجموعته، إذ تقول بعض الدراسات إن قدرة الذكور على تأمين الطعام دفعتهم للاستئثار بالكمية الأكبر منه، مما ساهم في إضعاف الإناث جسدياً والتقليل من قواهم العضلية التي لا تزال، ويا للغرابة، هي الحكم الأول في معركة إثبات الذات بين الجنسين.

نساء الشرق ما زلن يحملن علامات الاستفهام على أكتافهن كلما اختلطن بالمجتمع أو ظهرن بوضوح فيه أو تقلدن وظيفة مهمة أو مارسن فناً أو كتابة.

ما أعلمه هو أن العالم في معظمه يصارع بحق لتجاوز هذه الأفكار الرديئة القمعية، خصوصاً مع وصول البشرية إلى مرحلة لم تعد فيها القوى الجسدية هي المقيٍم الأول لقيمة وأهمية الفرد عموماً، ومع التطور العلمي للبشر الذي كشف عن القوى الخارقة لجسد المرأة، التي تتكشف من خلال قدرتها على تحمل الآلام، خصوصاً تلك التي للمخاض والتي لا يمكن لجسد الرجل أن يتحملها. شرقنا الأوسط يقف استثناء كعادته، حيث الصراع من أجل تحرير المرأة من الأفكار البائدة، يقابله صراع للإمعان في دفنها فيها. لا تزال المرأة تقف في مجتمعاتنا على طرفي النقيض من معادلة التقييم، فهي إما ملاك طاهر أو غاوية شيطانية، لا مجال لموقع منتصف لها، لا مساحة متاحة لأن تختار رغباتها وتوجهاتها، فهي محكومة بالتوقعات البيولوجية أن ترغب دوماً في أن يكون لديها أطفال وأن تُحبى مباشرة بمشاعر الأمومة، والتي لا تسيطر عليها هذه الرغبة أو تلك المشاعر تعتبر عاقة عن مجتمعها وبنات جنسها. وعليه، فالمرأة إما أماً ملائكية طاهرة أو غانية شيطانية نجسة، هذا المفهوم البائد الذي قالت فيرجينيا وولف أن تحرر المرأة منه ومن وضعها المقموع بشكل عام يتأتى مع نهاية الملاك القابع في أرواحنا النسائية، مع قتل الرغبة المستمرة في التضحية من أجل الآخرين، مع تبني شيء من الأنانية، عندها فقط يمكن لنا أن نجد أماكن أخرى غير طرفي النقيض، وعندما يمكن أن نحيا حيواتنا كاملة وبشكل مستحق.
نساء الشرق صراعهن حارق صارخ، كأنه مشهد حرب في «صراع العروش»، صراع دموي بكل المعنى الحرفي للكلمة. نساء الشرق ما زلن يحملن علامات الاستفهام على أكتافهن كلما اختلطن بالمجتمع أو ظهرن بوضوح فيه أو تقلدن وظيفة مهمة أو مارسن فناً أو كتابة. نساء الشرق ما زلن حبيسات التاريخ الذي قال بتدني منزلتهن، بداية من سبب ضعفهن الجسدي، ومروراً بالأسباب البيولوجية التي حملتهن عبء الإنجاب، ووصولاً إلى سبب طبيعتهن الجسدية التي تجعلهن موقع الرغبة. نساء الشرق ما زلن يحملن كل المسؤوليات ويتحملن كل الملامات، أجسادهن عبء عليهن، أنوثتهن حائط منيع بينهن وبين الحياة، لعنة الطبيعة التي حملتهن مسؤولية الإنجاب صبغت كل جوانب حياتهن وأزاحت كفة الميزان بعنف تجاه الرجال. نساء الشرق، وإلى هذا اليوم، يزوجن طفلات، بسكوت من المجتمع وبتأييد من رجال الدين لموضع الأنثى كمادة للتمتع، حتى وهي بعد طفلة رضيعة. ذكور الشرق (بالطبع بلا تعميم) ما زالوا محكومين بالذاكرة التاريخية التي تستحضر صورة الغانية لكل امرأة خرجت للمجتمع أو تَسَلط عليها ضوء. إرث المرأة في شرقنا ثقيل، إلا أن إرث الرجل لربما لا يقل عنه ثقلاً، فأن تُوَرث القهر والظلم فقد يتساوى أثره في الروح مع أن تورث العنصرية والشوفينية الذكورية، كلاهما يتلفان شيئاً في النفس، الاختلاف هو أن الإرث الأول يسرق منك كل الحياة، فيما الإرث الثاني يتخمك. ولكن حتى مع ثقل ميراثهم، للذكور نصيب من الحياة مثل حظ الأنثيين وأكثر.

اترك تعليقاً