من عرض "مذكرات بحّار" (حساب مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي على موقع انستغرام)
غرابة العاشقات
قبل خمسة أيام أكملنا 29 سنة من الزواج، وقبل ذلك بأيام حضرنا أوبريت رائعا بعنوان “مذكرات بحار” لشاعر الكويت العظيم محمد الفايز. العملان، الشعري والغنائي، كلاهما يعتبر من أهم قواعد التراث الفني والأدبي في الكويت.
هذه السنة تصادف الـ40 على أول تنفيذ فني “لمذكرات بحار”، احتفى بها مركز جابر الأحمد الثقافي (دار الأوبرا الكويتية) بإعادة إنتاج بديعة للعمل، بنص مكتوب للمبدع الأديب الكويتي سعود السنعوسي، وبتقديم أحدث ما توصلت إليه تكنولوجيا المسرح العالمية على خشبة دار الأوبرا. كانت ليلة ساحرة بحق.
دلفت وأنا أعلق يدي في ذراع زوجي هامسة: حتى تعرف النساء أنك لي وحدي فتغض بصرها. كعادته، يلاقي كل تعليقاتي بضحكة هادئة وتعليق لطيف تغلفه سخرية خارجية ويبطنه الإحراج من الإطراء، إحراج يزيد من سحر شخصيته.
نحفظ أنا وهو كلمات “مذكرات بحار” عن ظهر قلب، ندندنها في أيامنا باستمرار، لكل منا مقطع مفضل، كل منا يخبر الآخر عن تشوقه لسماع الإنتاج الجديد لمقطعه ذاك. صعدنا إلى مقعدينا في قاعة المسرح المهيبة، آخر كرسيين في آخر صف، هو ما استطاع زوجي الحصول عليه بعد أن تأخر تأخرا لم أغفره له في الحجز. كانا أفضل كرسيين في الواقع، أملكاني المسرح والجمهور وكف زوجي أحتضنه دون خجل وأنا أسمع الكلمات وأستحضر الذكريات.
أَمَسَكت “مفلقة” المحار
في الفجر مرتجفا لتكتمل القلادة
في عنق جارية تنام على وسادة
ماذا لو كان قدرنا أن وُجِدنا قبل زمننا بخمسين سنة، هل كان رجلي هذا ليخرج إلى البحر الغادر غائصا في ظلماته ليضع لؤلؤة على صدر جارية تعيش في قصر مخملي ليعود بثمنها يطعمني به وعياله؟ هل كنت سأكون سعيدة؟ لا أتخيل حياة من دون هذا الرجل، عشت معه أكثر من ضعف ما عشت بدونه، لا أذكر ما كان من الحياة قبله، وسيعرف هو الحياة من بعدي لا أنا من بعده. هل كانت تطيب الحياة وأنا هناك “بلا سوار، بلا قلادة” في بيتي الطيني “حالمة وحيدة” كما تقول القصيدة المهيبة؟ هل كان ليفرق تعداد الأيام لو أننا عشناها خمسين سنة سبقت في بيت طين، وقد خلى مني المعصم، وتشقق منه الكف وهو يتسلق الحبل الغليظ صاعدا المركب بعد “غيصة” خطرة على “دانة” نادرة؟ لا بد أنني كنت سأكون كما أنا سعيدة، ولا بد وأنني كنت سأكون كما أنا عنيدة، ولا بد وأنه كان سيكون كما هو مهيب الشخصية، رفيع الخلق، حالم القلب، قليل الكلام، رحيم النفس، لا بد أنه سيكون كما هو يقبلني على الرغم من كل شيء، ويغفر لي دائما وقبل كل شيء.
أسمعه يدندن أبياتي المفضلة ونحن نتجاور على المقاعد المخملية الجميلة
إني أحاذر أن أموت
لما أفكر أن لي بيتا ولي فيه عيال
لما أحسن بأن في الدنيا جمال
أنظر إلى صفحة وجهه اليسرى، الشعيرات البيضاء تغزو شعره الكثيف الأسود وشاربه، تسعة وعشرون سنة، تجارب ورفقة وسعادة وحزن واتفاق واختلاف، ورضا، رضاك الجاهز دائما وغفرانك، وصدرك العريض المتناسق مع قامتك الفارعة، دائما مستعد للمغفرة، لاحتضاني والأولاد بأخطائنا ونزعاتنا واندفاع قراراتنا، اندفاع ورثوه عني وأورثوه لك حملا ثقيلا. في حضرتك شعور عارم بالأمان، مهما عظمت المشكلة أو بلغ الاختلاف أو تراكمت الأحزان، مخزن الأمان عندك لا ينضب، مثل الرحمة، ومثل الضحكة الصافية، ومثل أغنياتك الكثيرة التي تزعجني دندنتك بها أو استخدامك لها ردا على غضباتي.
ماذا لو كنت بحارا تغوص على اللؤلؤ ولا تملك أن تلقمه خيطا على صدري؟ ماذا لو كنت “غيصا” بسيطا أو “سيبا” مبتدئا بالكاد تجد لقمتنا، بالكاد توفر هدمتنا، هل كنت لتبقى راض كما أنت الآن، رحيما كما هو قلبك، وافر الضحكات والأغنيات كما هو طبعك؟ متأكدة أنا أن بحار الدنيا المالحة كلها لا يمكن أن تغيرك، وأنك لي، سواء في هذا الزمان أو لو كنا حضرنا الدنيا قبله أو لو أن أرواحنا تناسخت بعده، أنت موعود لي، أمي طلبتك، حد روايتها، عند بيت الله الحرام، أنت صادق دعواتها، وفيض طلب قلبها، أنت نصيبي في هذا الزمان وكل زمان، وحتى في العدم، حين لا نعود ولا نكون، ستكون لي. ألست تردد باستمرار أن عليّ ألا أقلق من النهايات لأنني لن أعرف أنها النهايات؟ سأبقى معك وجود أبدي سرمدي، غبار نجوم تسبح في الفضاء، دفة مركب بحار أكلتها ملوحة البحر، لؤلؤة مدفونة في محارة في عمق الخليج، لن يجدها “غيص” في يوم.
محمد الفايز لم يخلد تجربة الغوص في الكويت ما قبل النفط فقط، ولكنه كشف عن الجانب المأساوي منها. كشف عن كل ما أحاط بها من ألم ومعاناة بعيدا عن النوستالجيا الشاعرية التي طالما تعامل بها الجيل الجديد مع حياة أجيال ما قبل النفط. لكن نرجسيتي تقول إن محمد الفايز جمعني بك في سنتنا التاسعة والعشرين، في آخر صف في دار الأوبرا الفاخرة، كفك في قلب كفي، قلبي يدق كعروس جديدة تتأمل عريسها بدشداشته الطويلة البيضاء، معطرة بدهن العود، مفرودة مصقولة كأنها عقاب القدر على المنوط بكيها، غترتك بيضاء تلتف حول وجهك بوجاهة، ساعتك تتنزه على معصمك، تحمل صورتي، أكاد لا أكتفي من ذكر ساعتك التي تحمل صورتي، لربما يذكرها قراء “الحرة” المنكوبين بمقالاتي. كل ما فيك ينطق بالوسامة ووجاهة الخلق وكل ما يختبئ خلف قفصك الصدري يشهد بالنبل والشهامة، وكل ما يدور في عقلي هو بسملات وحوقلات كانت تدور في صدر جدتي من قبلي.
ألا يا غرابة العاشقات، كلهن يتشابهن، من لم تفك الخط ومن تعلمت في جامعات الغرب، في اندفاع العشق وسذاجة الأماني: أن أيتها الأقدار أبعدي عنه الأعين والنوايا وأبقيه لي، بحق بخور جدتي وحرملها الذي به تذر العين الحسودة التي ما اعتقدت أنا بها قط، ما اعتقدت بها إلا عند باب قلبك، حين أخاف عليك من كل الأشياء التي لا أصدقها، وأتصرف عندك بكل السذاجات التي أضحك منها، وأنقلب في حضرة وجودك إلى جدتي الجميلة الغائبة، مجرد امرأة تخاف العين وتحرق البخور وتنتظر عودتك دائما.
كل عام وأنت بخير.