عنكبوت
أتذكر قبل سنوات، مع بداية الأحداث في البحرين، حكت لي صديقتي لولوة بمرار عن الأسر التي تهدمت والعداءات التي تشيدت والحواجز التي قامت بين الأهل والأصدقاء، علاقات قديمة وصداقات متينة كلها وقعت تحت وطأة الغليان السياسي في البحرين وهُدمت ونُخرت بالقرارات الحكومية التي صاحبت الأحداث. في العراق، كما في سورية، أصابت القرارات السياسية أول ما أصابت الشارع العام وتحديداً التكوين الأسري فيه. يتخذ القادة والسياسيون قراراتهم، فتتفكك علاقات وتموت أسر كانت لتكون سعيدة آمنة، يتسلح الابن ضد أبيه وتقف الأخت في وجه أخيها وتنمو الأشواك بين أحبة ما كانوا ليتخيلوا نموها في ساحات دورهم وفي نفوسهم.
قبل أيام كتب باسم يوسف في مقاله قصة مستوحاة من حادثة حقيقية حدثت في ليلة كريسماس، عندما تطايرت الصحون الأنيقة مصحوبة بالكلمات الغليظة على إثر نقاش سياسي بين أهل وأصدقاء لتستقر ليس فقط على الوجوه والملابس، ولكن لتترك أثرها الدائم في النفوس والقلوب. انقسم المصريون بسبب القرارات الحكومية المتلاحقة، قرارات يفترض أنها أتت بعد ثورة خارقة ترفض الظلم والدكتاتورية، قرارات ما فتئت أن عزلت وهمشت عوضاً عن أن تدمج وتوحد، فاخترق الصف المصري الذي دوماً ما كان الأقوى عربياً في مواجهة حكوماته. تتساقط الأسر الواحدة تلو الأخرى، تموت العلاقات وتدمى المشاعر ويستتب الكره والعداء بين أنسباء وأهل، بين آباء وأبناء وإخوة وأخوات، لأن “فلان الخاين” متعاطف مع الإخوان و”علان الحكومي” التابع يحب السيسي، تتهدم البيوت وتتساقط الحوائط المتينة ليجلس الساسة على تلها.
وكيف ننسى الحراك الأخير في الكويت، حراكاً قسم البيت الواحد وبث العداء في أروقته. صنع لنا السياسيون القوالب فتلقفناها ووضعنا بعضنا بعضا فيها، إن كنت مع المعارضة فأنت خائن ترمي لإسقاط نظام الحكم، وإن كنت مشاركاً فأنت عميل انبطاحي، تهدمت علاقات و”شانت” نفوس واستتبت عداءات، وهم يجلسون في عليائهم يتضاحكون علينا ونحن ننهش في بعضنا بعضا، “نلطش” الكلمات ونرمي الاتهامات حتى تصبح العودة لسابق العهد ضرباً من المستحيل.
هل هو استسلام لنظرية المؤامرة أم أنها خطة اتفقت عليها الأنظمة العربية لتضمن استقرارها تقلب الشعب على بعضه والشارع ضد نفسه بدءاً بالأسرة الواحدة وانطلاقاً من أكثر العلاقات حميمية فيها؟ هل يعقل أن كل هذه السياسات في أنحاء الوطن العربي التي أضرمت النار في البيوت الآمنة وبذات الأساليب المتشابهة تكون نتاج مصادفة محضة؟ أم أن الساسة العرب كلهم درسوا في ذات المدرسة، وطافوا بذات المقرر: “كيف تشغل شعبك ثم تكسره”؟ إنها مؤامرة “يلضم” أول خيوطها في قلب الأسرة العربية، لتمتد هذه الخيوط وتتشابك وتتعقد بين بقية الناس حتى لينشغلوا في اختلافاتهم وولاءاتهم يدافعون عن هذا ويدفعون عن ذاك، موجهين السهام المسمومة لقلوب طالما أحبتهم وأحبوها، ليصبح كل منا وحيداً منقطعاً منشغلاً بعداءاته تجاه من كانوا في يوم أعز الناس إليه.
سلمنا رقابنا لهم وبعدها حتى مكنون قلوبنا، مكناهم من الاستحواذ على مشاعرنا، أخص ما نملك، أعز ما نملك، لربما كل ما نملك، فأصبحنا لا من إرادتنا، ولا حتى من علاقاتنا وصداقاتنا ومشاعرنا. أي خطة لئيمة هذه وأي مصير بارد ينتظرنا على إثرها؟