شعوب مكتملة الشحن
ترتفع نبرة حوار استشكالي في الكويت اليوم، حوار يجد صداه في منطقة الخليج والمنطقة الشرق أوسطية أجمع مرتدا من عمق التاريخ في المنطقة. الوجود الشيعي في منطقة الخليج العربي وفي الدول العربية الإسلامية هو وجود استشكالي، هذا ما لا يمكن أن تنفيه كل الشعارات المرفوعة حول مدنية الدول العربية الإسلامية اليوم وحول مساواة مواطنيها. الدول العربية الإسلامية تميز بين مواطنيها وعلى أكثر من مستوى وبأكثر من أداة، فالتمييز ممكن أن يكون عرقيا، اقتصاديا، تاريخيا، إلى أقوى أنواعه، الديني، والأداة ممكن أن تكون قانونية، اجتماعية أو اقتصادية.
وعليه يمكن لهذه الدول أن تميز بين المواطنين قانونيا، مثل أن تعمم القوانين السنية لتشمل الشيعة تحت مظلتها رغم التعارض العقائدي، أو أن تفرض تدريس المنهجية السنية الدينية في المدارس على الطلبة الشيعة. هناك كذلك أدوات اقتصادية واجتماعية قد لا تُفَعَّل مباشرة قانونيا، كأن تعطى تسهيلات مالية للشركات والأفراد أصحاب التوجهات السنية أو أن تُخصص المناصب، بشكل غير رسمي أو مقنن، للسنة من دون غيرهم، إلى غيرها من أوجه التمييز الواضحة والتي لا يمكن نفيها أو تبريرها مدنياً أبداً.
إلا أن هذه ليست استشكالية الدول السنية، هذه في الواقع استشكالية الدول الدينية عموما، والتي يأخذ فيها الدين، والطائفة بالتبعية، دورا بارزا في التشكيل القانوني والحياكة الاجتماعية لنمط الحياة فيها. إيران مثلا تميز ضد السنة، وإن كان لديها نواب سنة في برلمانها، وإن كان لديها دور عبادة سنية، وإن كان عند السنة فرص حوار وإبداء رأي.
كل ما سبق لا ينفي التمييز الشيعي ضد السنة في هذا البلد، بدليل أنه لا يمكن لسني مثلا أن يتنصب في مركز قيادي سياسي في الدولة. الدول الدينية، أو تلك مدنية الواجهة دينية الروح والتأسيس، ستميز دائما، ستفرق دائما، ذلك أن تداخل الدين بالسياسة سيجعل الدين وزنا في مكيال الدولة العام. إدخال المزيد من أصحاب ديانة أو طائفة مختلفة على المعادلة السياسية سيقلبها، وعليه ستعتمد الدولة ذات الطابع الديني دائما إعلاء شأن “أغلبيتها السياسية”، وتحجيم البقية محافظة على الموازنة الدينية السياسية فيها، لا مجال لتفادي ذلك مطلقا.
كل ذلك عام التطبيق في منطقتنا المشتعلة، إلا أن هناك استشكالية شيعية خليجية تحديدا فيها، ذلك أنه على الرغم من التمييز الواضح ضد الشيعة بدرجات مختلفة في الخليج، في الكويت مثلا الوضع الشيعي يتعدى غيره ارتياحا بمراحل، إلا أن للشيعة دور، سبق وأن كتب العديدون وأنا ضمنهم عنه، يرسخ المخاوف والتشككات الخليجية تجاههم.
في غالب المواقف، يلعب الشيعة هذا الدور بسذاجة ومن دون استيعاب تام منهم لحجم الفجوة التي يخلقونها. إن التعاطف والنوستالجيا الدينية التي يوجهها الشيعة لإيران “كالمدينة الشيعية الفاضلة” هما تعاطف ونوستالجيا ساذجين، فهؤلاء الشيعة الخليجيين لن يتحملوا، كما كتب المفكر الكويتي الرائع، خليل حدير، أن يعيشوا يوما واحدا اقتصاديا في إيران، ولا أن يتحملوا ساعة واحدة سياسية في هذا البلد القاسي.
كما وأن التعاطف الواضح مع حزب الله أو النظام السوري يتصادمان بوضوح وسياسات الدول التي يعيش هؤلاء الخليجيون الشيعة فيها، أضف إلى ذلك أنه تعاطف ساذج مرة أخرى، أو لربما جاهل في الواقع، تعاطف لا يرى في الحزب أبعد من المكانة الدينية لرئيسه، الذي هو في الواقع يلعب سياسة لا دين، ولا يرى في النظام السوري أبعد من مذهب أفراده، والذي هو مذهب يبتعد أصلا عن المذهبية الشيعية في عمقها.
زيادة للطين بلة، تشتد هذه الحساسية حين استيعاب أن معظم المرجعيات الشيعية، إن لك تكن كلها، تتمركز في العراق وإيران، الدولتين الأكثر استشكالا سياسيا مع دول الخليج. وعلى حين أن الأغلبية الغالبة من الشيعة تطلب النصح والفتاوى الاجتماعية والعباداتية من مرجعياتهم الخارجية، إلا أن هذا الفعل يبث الخوف في قلب الأغلبية السنية التي تستشعر أن هناك تسييسا خارجيا يتسرب إليها من خلال هذا النصح الديني. في الغالب هذا الشعور غير صحيح، إلا أن هذا لا ينفي هذا التسرب تماما في ظروف قليلة أخرى.
إن استشكالية “خارجية” المرجعيات والمقلدين المتبعين من قِبل الشيعية الخليجيين، وتمركز هذه المرجعيات ومصادر التقليد في دول تتنافر مع الخليج سياسيا، إضافة إلى ضبابية مَصَبَّات الخُمس، وهو ما يعادل الزكاة عند السنة، أي عدم وضوح تحركات هذه الأموال، يجعل الوضع الشيعي العام في الخليج محل ريبة واتهام.
هل هذا عادل وصحيح؟ بكل تأكيد لا. فالكثير من أموال الزكاة السنية الخليجية توجهت توجهات لربما ساهمت في تقوية منظمات وأفراد إرهابيين، والعديد من سنة الخليج يستمعون لتنظيمات خارج المنطقة، مثل الطاعة الإخوانية لمنابعها المصرية. إلا أن تعميم الظلم لا يحوله عدلا، وأن يتورط السنة في أفعال مثل هذه لا يبرر للشيعة تورطهم المماثل خصوصا مع حساسية وضعهم وأقلية قوتهم السياسية في المنطقة.
الموضوع معقد بالتأكيد، ففصل الناس عن مرجعيات توارثوها أباً عن جد عملية غاية في الصعوبة، ومساءلة توجهات أموال الخمس عملية غاية في الحساسية، وكل هذه العمليات أصلا تحمل تجنيا على الحقوق الدينية وعلى مفهوم حماية حرية الممارسة والعبادة. لكن لابد أن نبدأ من مكان ما: لابد أن تتجه دولنا العربية إلى أشكال أكثر مدنية، لابد أن تستوعب هذه الدول أن التحالف الديني السياسي هو أسلوب عفى عليه الزمن ولن يتسبب سوى في زرع التشوهات السياسية والاضطرابات الاجتماعية في المجتمعات المعنية، ولابد لسنتنا وشيعتنا أن يؤمنوا بمدنية وجودهم وخصوصية تدينهم، وأن تبقى عواطفهم الدينية محل تقييم مستمر.
إن التعاطف الشيعي المستمر مع حزب الله، وهو بالمناسبة في أغلبه تعاطف ديني عقائدي ساذج أغلب من يعلنون عنه لا ناقة لهم في السياسة ولا جمل، هو مدمر للراحة الاجتماعية الشيعية في الخليج. كما وأن الكراهية السنية للحزب وإعلانه إرهابيا، وكأنه يوازي تنظيم القاعدة مثلا، هي عاطفة متطرفة كذلك. ولعل هذا الموضوع المعقد الحساس جدا يكون موضوع مقال آخر. يبقى أننا مشحونون دائما بالتسييس الديني، وإذا استمر هذا الشحن، الذي توصله بكهربائه حكوماتنا كلها من الخليج إلى المحيط، سننتهي إلى صاعقة ستحرقنا جميعا.