«سلطانات منسيات»
هاتان الاثنتان، أمي وابنتي، تحوطان جانبي حياتي، شروقها وغروبها، نصفها الأول ونصفها الثاني، تملآنها بأشياء أكثر من الحب والجمال، أهم من العواطف، تملآنها بتجارب، بأفكار، بمشاهد حيّة على روعة الإنسان وهو يلعب دور الأم ودور الابنة.
أحكي لكم ما أعني، ابنتي الكبرى، خريجة المدارس الأميركية، تنطلق بالإنكليزية وتكسر العربية، أفكارها متطايرة في الهواء، ثوراتها يانعة رائعة، صغيرتي “الدلوعة” التي لم أنتبه كثيراً لفلسفتها في الحياة، وهل لمثلها أن تكوّن فلسفة بعد؟ قبل يومين خابرتني على التلفون تحكي لي على عادتها كل الأخبار والحكايا الصغيرة، أستمع لبعضها ويتوه عقلي في الكثير الآخر منها في دهاليز أعمالي المتراكمة التي لم تتمّ. حكت عن هذه الصديقة التي تبضعت من دبي وأخرى اشترت سيارة “مخصوص” للشاليه،عن تلك الحقيبة الفخمة للتو ناظرتها في يد هذه، وعن إسوارة كارتير التي لربما تفوق الألف دينار في يد تلك. وبينما أنا أردد “نعم، نعم” على عادتي، انتبهت للحظة، هذه الصغيرة الجميلة، وأنا أختار لها ولأخيها وأختها حياة في مدارس خاصة مكلفة، يرتادها علية القوم، بالكاد أسدد أقساط رسومها، استثماراً في أولادي الذين لا أملك وديعة ولا ثروة غيرهم، كيف لم أفكر فيما ستستشعره هي بين قوم ليسوا من قومها وفي طبقة لا تنتمي هي إليها؟ قلت لها، ما أجمل ضحكتك يا صغيرة، ألا تقارنين أو تغارين؟ نحن نوفر لكم الكثير، نحن من الثلاثة في المئة من البشر المحظوظين المرتاحين جداً، ولكن أنا وضعتك مع الواحد في المئة الذين لن أكونهم في يوم أبداً، فكيف ترين نفسك مع هذا الفرق؟ حكت لي كثيراً عن سعادتها وعن تحصلها على كل ما يسرّ قلبها، حكت بمجاملة رائعة عن مميزاتي كأم وعن ثروة حريتها التي لا تبادلها بحقائب وسيارات الدنيا كلها، ولكن بقيت رنة ضاحكة في صوتها هي أصدق من كل ما قالت، رنّة من سنوات طفولتها، أخبرتني أن سعادتها حقيقية ورضاها تام، وأن الحقيبة التي لا أقوى على شرائها أو الإسوارة التي تخرج عن قدراتي لا تفرقها في شيء عن صديقاتها الحبيبات. تعلمت من الصغيرة فنّ الرضا وجمال القبول، فلا أنكر أنهما يفوتانني كثيراً تحت ضغوط الحياة ومتطلباتها المادية، أخجلتني ضحكتها المتواضعة وهي في عمر الغرور، وعلمت أن رضاها سيؤمنها كل حياتها، فإليها أقول كل عيد أم وأنت بخير.
وأما أمي، هذه السيدة الجميلة التي تعيش حياتها على ضفاف عواطفها، تحب جداً وتغضب جداً وترسم لوحاتها جداً، كل شيء فيها حقيقي وواضح ويانع مثل حزمة فل مقطوفة للتو من شجرتها، إليها أتجه حين تشتدّ بي الدنيا، فإذا ما انهزمت، أنظر إليها لأتذكر انتصاراتي، وإذا ما حزنت أتوجه إلى قبلتها لأتذكر أفراحي، لديها مخزون لا ينضب من الرضا، هي الوحيدة التي تستطيع أن تراني أجمل وأنا في أسوأ شكل، أعلى وأنا مهزومة، منتصرة وأنا مكسورة. المذهل أنها صادقة تماماً، لا يجاملني حبها في شيء، هو كذلك، مصنوع كذلك، برؤية كمالية لابنتها، فمن يمتلك سحراً كهذا غير أمي؟ ومن يمكنه أن يقلب وضعاً حزيناً إلى سعيد، ومهزوماً إلى منتصر، ويائساً إلى منتعش غير كلماتها الصادقة الطازجة المعبقة برائحة الفل؟ وإليها أقول كل عيد أم وأنت بخير.
“مبروكين عيد الأم”، الذي يترافق ويوم المرأة في ذات الشهر، شهر نحتفل فيه “بسلطانات منسيات”* نعيش في رحاب محبتهن، وكثيراً ما نغفل أن نصلي لهن. كل عام والجميع بخير.
*عنوان كتاب للرائعة فاطمة المرنيسي أنصح بقراءته خصوصاً مع احتفالنا هذا الشهر بالمرأة.