سرطان
أن تعمل في المجال الإنساني في العالم العربي والإسلامي يعني أن تنام وتصحو بدائرة حمراء على جبهتك، فأنت هدف للحكومات التي تراك مصدر إزعاج ولغط و (تلك هي التهمة المفضلة لدي) ناشر للفضائح، أنت لا تحب وطنك لأنك لا تتستر على ‘بلاياه’، كما وأنك هدف للشارع، للناس التي ترى أن ‘مشيك مائع’ لا أنت مع هذا ولا أنت مع ذاك، ليس لك شكل ولا تصنيف، ولا شيئ مكروه في الشارع العربي والإسلامي قدر غياب التصنيف.
والمجتمعات القديمة كانت تعشق التصنيف، في الواقع هي كانت تحيا عليه وتدير كل أمورها من منظوره. التصنيف الطبقي كان الأهم، وتقف الأهرامات مثلاً لتشهد على تصنيف طبقي يمتد لما بعد الموت، والكولوسيوم ليشهد على ذات التصنيف الذي يضع البشر في طبقات عليا هبوطاً الى السراديب المظلمة، وقانون حمورابي الذي يعتقده الكثيرون رمزاً للعدالة المطلقة ليدلل بشدة على الفرق بين العبد وسيده وبين الذكر و’أنثاه’. تتوالى الدلائل قديماً وحديثاً على العشق البشري للتصنيف، الطبقي منه والجنسي والعرقي والفكري والديني، الى أدق دقائق التصنيفات التي تبقى تقسمنا وتقسمنا وكأننا خلايا ية تتكاثر بشكل عشوائي جنوني صانعة من المجتمع بأكمله ورماً خبيثاً مميتاً.
في المجتمعات الأكثر تقدماً بدأ هناك، في المئتي سنة الأخيرتين، حوار حقيقي حول مشروعية الكثير من هذه التقسيمات، بما فيها التقسيمات الأكثر صلابة وظهوراً كالتقسيمات الجنسية والجندرية. فأما التقسيمات الطبقية فقط ماتت مع بزوغ الماركسية وحيت مع ظهور الرأسمالية واستقرت في مكان أوسط الآن في المجتمعات الغربية، فهي موجودة بلا شك الا أنها تمارس اجتماعياً على استحياء وفي صور يحاول المجتمع، وان لم ينجح كثيراً، أن يخفيها. وكذا هو الحال مع التقسيمات العرقية والفكرية والدينية، حيث تأخذ المجتمعات الحديثة خطوات بطيئة في محاولة تسويتها، ليكون العائق الأكبر أمام كل المجتمعات الإنسانية، هو التقسيم الجنسي والجندري، الذي تجد الإنسانية صعوبة بمكان في تخطيهما.
وتأتي صعوبة تخطي التقسيم الجنسي كونه مرسوم على الجسد. وهنا لابد من التفرقة بين مبدئي الجنس sex والجندر gender، حيث يصعب ترجمة الأخيرة بكلمة عربية واحدة. وجندر تعني تقسيم الدور الإجتماعي للنوع الانساني، فمثلاً، يمكن أن يكون جنس الإنسان ذكر الا أن تقسيمه الإجتماعي أنثوي اذا ما أتى على تصرفات يعتبرها المجتمع خاصة بالأنثى. ولقد كتبت كرستين دلفي في مقال لها بعنوان ‘اعادة التفكير في الجنس والجندر’ تتساءل عن صحة هذا التقسيم، حتى الجنسي منه، فما يفرق المرأة عن الرجل بشكل أساسي هو الرحم، فلم يبقى التقسيم قائماً في غير حالات الحمل والولادة؟ تأتي هي كذلك على التقسيم بين الجنس والجندر وتتساءل عن بدايتهما، فمن منهما بزغ أولاً في المجتمعات الإنسانية ولم؟ تقول دلفي أن العديد من المفكرين النسويين في فرنسا يقفون ضد استخدام كلمة ‘جندر’ لما لها من دلالات مؤكدة تجاه التقسيم الجنسي على أنه طبيعي والتي هي فكرة يسعون لمحوها، الا أنها تعود فتأكد على أن النسويين غير قادرين على تخطي فكرة ‘الاختلافات’ بين الجنسين، وذلك يعود للخوف من أن غياب الاختلاف سيجعل النموذج الذكوري هو السائد، وذلك ثمن، يعتقد النسويين، لربما لابد لنا من دفعه في حال غياب التقسييم، وهو ثمن باهظ جداً.
يستمر النقاش حول هذا الموضوع وغيره بعمق غير مسبوق في المجتمعات المتحضرة، وما استعراض فكر دلفي الذي أوردته أعلاه سوى استحضار لمثال للمرحلة التي وصل الها الغرب في التعامل مع التقسيمات، مرحلة تستجوب حتى التقسيمات الجسدية الظاهرة للعيان. يدرك العالم المتحضر أن التقسيم أورد البشرية الكثير من المهالك، وأننا وصلنا الى مرحلة نحتاج خلالها لغياب كل التصنيفات واعتماد منظور جديد غير مسبوق في النظر للبشرية، ولربما للوجود بمجمله. أما نحن ها هنا في الشرق الأوسط الذي يتقافز على صفيح ساخن، فإننا نرفع درجة الحرارة بالدفع أماماً بالتقسيمات، في الإمعان بتقسيم تقسيماتنا. فنقسم الناس الى طبقات، والى أسر وقبائل وعشائر، ثم الى أفخاذ وأوراك وضلوع. نقسم الناس في لونها وفي عرقها وفي فكرها وفي دينها وفي طائفتها، في جنسها وفي ممارستها الإجتماعية وحتى في اختياراتها الخاصة في غرف نومها، مهووسون نحن بالتقسيم حتى أصبحت مجتمعاتنا خلايا ية غير قادرة على التوقف عن التكاثر والإنشطار.
فان كنت تعمل في المجال الإنساني، فلابد لك أن ترفع راية ‘الخلية الواحدة’، الإنصهار لا الإنشطار، التجرد لا التصنيف، وهذا جهاد مع النفس قبل الغير يتطلب قهر النفس على موضوعية في الرؤية وعدالة في تطبيق المبادئ التي ما أحلى التغني بها وما أوجع تطبيقها. وأتذكر أنني عندما أعلنت موقفي المناهض تماماً لعقوب الإعدام، جابهني الأصدقاء قبل الأعداء بالسؤال الموجع، اذن أنت ضد إعدام صدام حسين الذي استباح أرضك؟ والجواب الأكثر ايلاماً هو نعم، أنا ضد عقوبة الإعدام بغض النظر عن وحشية من ستطبق عليه، لأنني بذلك أقاوم وحشية نفسي وأعلي انسانيتي، لأنني بهذا الرفض اقول أن المبدأ يهذب النفس ويتحكم في غرائزية الشهوة للإنتقام التي لو تركت لها العنان لاخترت تمزيق صدام بأسناني إرباً إرباً ليس فقط لما أتاه بحق الكويت ولكن كذلك لما فعله بالشعب العراقي وجاره الإيراني ولربما بالمنطقة الشرق أوسطية بأكملها.
ولقد كان لي موقف مشابهه من مقتل القذافي الذي رأيت في طريقة مقتله وحشية لن تضره وهو في عداد الأموات، ولكنها بلا شك ستترك أثراً وتثبت سابقة في نفوس الليبيين، سابقة تسهل القتل وتبرر الوحشية وتقتل جزءاً من الإنسانية في القلوب، فالمراد من الموقف المناهض للقتل هو إنقاذ إنسانية الأحياء لا رحمة بمن لا يستحقون الرحمة. ولكن، لربما أكثر ما أزعج من حولي هو موقفي من القضيتين البحرينية والسورية، فكنت، بالرغم من كل الحيثيات، أرى القضيتين متشابهتين، وأكيل لثوارها بمكيال واحد، وأنظر حتى للتطرفات التي لحقت بثوراتها بذات المنظور: تقهر الناس، سيلجؤون في مرحلة ما للتطرف في دينهم الذي لا يبقى لهم غيره ملجأً. الا أن هذه النظرة أزعجت مرة أخرى القريبين قبل البعيدين، فكان لابد لي أن أقع ضمن تصنيف، شيعية مع ثوار البحرين أم سنية مع ثوار سوريا؟ الموقف الوسط هذا غير مريح، الرؤية الموحدة تخلط الأمور وتضع السكر على الملح، وتخرجنا جميعاً خارج دائرة الوضوح المريح وإن كان عنصريا بغيضا.
ثم يأتي موضوع التقسيم الجنسي والجندري، المثليين والمتحولين جنسياً وغيرها من التصنيفات الجنسية، التي ما أن تحاول أن تشير لأصحابها على أنهم بشر مثل غيرهم بغض النظر عن التقييم الديني أو المجتمعي لهم حتى تفتح أبواب جهنم. فمجتمعاتنا العربية الإسلامية تدعي خلوها تماماً من هذه التصنيفات ‘التي أوردها الغرب لنا’، نحن مجتمعات لا تقر بماضيها، المليئ بشخصيات شهيرة تنتمي لهذه التصنيفات الجنسية، ولا حتى بالماضي البشري بمجمله الذي لم يخلو، منذ بدأ الظهور الإنساني، من هذه التصنيفات الملازمة للتصنيفين الأنثوي والذكوري. نحن نرى ببصيرة واحدة، وتلك لا يمكنها أن ترى سوى ما هو أمامها مباشرة.
أن تعمل في المجال الإنساني، أن تتجرد، يعني أنك خارج حدود العرف الإجتماعي والقبول الديني، يعني أنك بلا إطار واضح، ليس لك اتجاه معرف، ‘ملكش صاحب’ بالمصري الفصيح. والناس تخشى هذه النوعية من الأفكار التي تجد مبرراً لكل وجود انساني حتى المختلف بل والشرير منه. فالناس تحب أن يكون هناك أخيار وأشرار، صح وخطأ، جنة ونار، أما في العمل الانساني، فالكل فيهم جانباً من الخير، الكل لديهم جانب من الصحة، والكل يستحق الجنة، فهل نستطيع في يوم أن نصنعها هذه الجنة البشرية ونلغي النار التي نعشقها؟