ابتهال الخطيب
دراسة : قانون إنشاء الديوان الوطني لحقوق الإنسان: قراءة وتوقعات
دعيت للحديث والتعليق حول إنشاء الديوان الوطني لحقوق الإنسان وذلك في ندوة عقدتها جمعية المحامين الأربعاء الماضي الموافق 31 أكتوبر 2018، وبعد نشر كلمتي المسجلة إعلامياً، نشرت معظم الجرائد الإلكترونية ودار معظم الحديث عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول النقاط التي لم تكن أساس موضوع الندوة، وترك المعظم مناقشة النقاط الرئيسية التي حاولت إيصالها.
التالية هي النقاط المحيطة بقانون إنشاء الديوان أعيد نشرها كتابياً لربما تُوصل المخاوف والقلق الذي أحمله أنا وغيري من الناشطين حقوقياً في الكويت تجاه فكرة إنشاء هيئة إنسانية حكومية في الكويت.
في نقطتي الأولى قلت إنه رغم وجود هيئات حكومية عالمية مختصة في قضايا حقوق الإنسان، إلا أن ظروف منطقتنا والتعامل الحكومي عموماً مع قضايا وتقارير ونشطاء حقوق الإنسان والحساسيات المرتفعة والعنصريات المنتشرة في الشارع العام والتي تستعملها الحكومات الشرق أوسطية لكتم القضايا أو لتخويف الناس من التعامل معها أو من محاولة حلها كلها ترفع نسبة المخاوف تجاه إنشاء جهة إنسانية حكومية، وكذلك نسبة التشكك حول نوعية الدور الإنساني المعارض الذي يمكنها القيام به. العمل الإنساني بطبيعته هو عمل معارض ثوري، تراقب من خلاله المؤسسة المعنية الأداء الحكومي تجاه قضايا حقوق الإنسان مما يجعل كون هذه المؤسسة حكومية هو موقع تناقض كبير يتطلب ديموقراطية وأمناً سياسياً عاليين لكي تنجح المؤسسة في عملها. أشرت كذلك الى أن إنشاء الديوان الذي تأخر كثيراً أتى بتعديل سلبي في القانون رقم 15 لسنة 2018، حيث نال التعديل المادة 4 من القانون، والتي كانت تنص على أنه “يصدر بتعيين أعضاء المجلس، مرسوم أميري لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة بناء على ترشيح من مجلس الوزراء وموافقة مجلس الأمة على تسمية الرئيس ونائبه” لتحذف الجملة الأخيرة ويصبح التعيين حكومياً فقط دون تدخل من مجلس الأمة، وهو مؤشر سلبي على الطريقة التي تفكر بها الحكومة تجاه هذه الهيئة. فالحجة التي تم الترويج لها من حيث إنه لن يستطيع مجلس الأمة، دستورياً، مراقبة جهة ساهم هو في تعيينها، هي ذات ركاكة واضحة، فهل هذا يعني أن أي جهة يساهم مجلس الأمة في إنشائها لن يستطيع محاسبتها؟ وهل هذا يعني أن الديوان بحد ذاته لن يستطيع محاسبة الحكومة لأن الحكومة هي التي شكلته؟
تلقي الشكاوى
كذلك تم تعديل البند الثالث من المادة 6 التي كانت تنص على أن “للديوان حق تلقي الشكاوي ورصد حالات انتهاكات حقوق الانسان، ودراستها وتقصي الحقائق بشأنها وإحالة ما يرى المجلس إحالته منها إلى الجهات المعنية والتنسيق معها ومتابعتها، وإرشاد مقدمي الشكوى إلى الاجراءات القانونية الواجبة الاتباع حيالها ومساعدتهم في اتخاذها أو تسويتها وحلها مع الجهات المعنية”، حيث تم حذف الجملة الأخيرة الخاصة بإرشاد مقدمي الشكوى ومساعدتهم. مرة أخرى، يرمي التعديل الحكومي للحد من صلاحيات مجلس إدارة الديوان ومن فاعليته، إلى المساعدة والتوجيه والمساندة الإنسانية والقانونية.
كذلك تنص النقطة السابعة من المادة 6 على أن من اختصاصات المجلس “المساهمة في إعداد التقارير التي تلتزم الدولة بتقديمها الى هيئات ولجان الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية بموجب انضمامها للاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، والرد على ما يصدر من تقارير من المنظمات غير الحكومية والجهات الأجنبية”، حيث تشير النقطة هنا الى ما يشبه كثيراً الدور المنوط بالجهات الحكومية المسؤولة عن الرد على تقارير المنظمات الحقوقية غير الحكومية، والدفاع عن موقف الحكومة تجاه ما ورد في هذه التقارير. وهنا يبرز السؤال، هل سيكون الديوان جهة رقابية على الحكومة تقدم التقارير الحقيقية حول أدائها الإنساني أم جهة مدافعة عن الحكومة تقدم التقارير التبريرية لها؟ كذلك تقول المادة 7 من قانون إنشاء الديوان إنه “تلتزم كافة الجهات الحكومية بمختلف أنواعها وكذلك الجهات غير الحكومية بمعاونة الديوان في أداء مهامه واختصاصاته وتيسير سبل حصوله على ما يحتاجه من البيانات أو المعلومات أو المستندات ذات الصلة بمجال عمله والرد على مكاتبات الديوان، وفي حال عدم الرد أو التقاعس تتخذ الإجراءات القانونية بحق المخالفين” وهذه المادة تبدو تهديدية نوعاً ما للجهات غير الحكومية، فهذه الجهات إذا لم تتفق وطريقة عمل الديوان أو ارتأت محاباة حكومية منه، ما الذي يحميها ومعلوماتها واستقلاليتها من الحكومة وإجراءاتها؟
الا أن هذه المحاذير الخطيرة في رأيي والتي أوردتها وغيرها في الندوة لم تكن هي محور مانشيتات الجرائد حول الندوة ولا محور حوارات المهتمين في وسائل التواصل. كانت هناك ثلاث نقاط رئيسية هي محور الحوارات سأتناولها هنا سريعاً قدر الإمكان.
أولاً: طالبت أنا بوجود لجنة دائمة للبدون في هذا الديوان، حيث رأى البعض أن المطالبة بإنشاء لجان ما هو سوى تسويف للقضية، إلا أن ما لم ينتبه اليه هؤلاء هو أن الديوان يفترض أن يكون جهة حقوقية لا جهة تنفيذية، هي جهة تراقب وترفع تقارير وتقترح حلولاً الا أنها لا تمتلك صلاحيات أبعد من ذلك. لذا، فالمطالبة بإنشاء لجنة للبدون فيها هي مطالبة تؤكد على دور الديوان الرقابي في موضوع البدون وليست مطالبة بحل القضية من خلاله لأنه ببساطة لا صلاحيات تنفيذ حلول لديه.
ثانياً: اعترضت أنا على جملة “بما لا يتعارض مع المادة الثانية من الدستور” الواردة في المادة 2 من قانون إنشاء الديوان والتي هي ذات الجملة التي طالما استخدمتها الحكومة ومجلس الأمة لتعطيل الكثير من المسائل الحقوقية، حيث كانت هذه الجزئية مستخدمة وعلى زمن طويل لتعطيل حصول المرأة على حقوقها السياسية، واليوم هي ذاتها ستقف حجر عثرة أمام العديد من القضايا الإنسانية المستجدة في عالم اليوم. ويفترض أن أهم ما يميز المنظمات الإنسانية، بل أحد أهم واجباتها هو أنها لا تنظر للدين كعنصر تقييمي في القضايا الإنسانية، حيث إن التعامل مع هذه القضايا يتطلب تجرداً من كل تعريف أو تحيز أو تأطير. بخلاف القضايا الاستشكالية التي لن يتم تداولها مطلقاً في الديوان بسبب هذا الشرط، ستكون المرأة هي الضحية الأولى لهذه الجملة. فإدخال الدين كعنصر تقييمي للقضايا الحقوقية ينسف المبدأ الحقوقي من أساسه والذي تنص عليه المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 29 من الدستور الكويتي.
ثالثاً: حيث إن الأستاذ علي البغلي أشار في كلمته التي سبقت كلمتي الى أهمية الشريعة الإسلامية كعنصر أساسي في عمل الديوان، وحيث إنه ضرب مثالاً حول موضوع المثليين مؤكداً أنه لن يكون موضوعاً مقبولاً العمل فيه بسبب شرط عدم التعارض مع الشريعة، فإنني، وخلال كلمتي، أشرت الى أنه لن يكون من المقبول لهيئة حقوقية أياً كان مكان تأسيسها أو طبيعة الناس القائمين عليها أن تعمل على أساس تمييز ديني أو تناهض حقوق فئة أو تتخلى عن حمايتهم بسبب توجهاتهم الشخصية المتنافية مع دين معين ولو كان دين الأغلبية. هنا يجب التأكيد على نقطة مهمة: إن مساندة الجهات الإنسانية للحق الإنساني في العيش الكريم وتحقيق الأمن والمحافظة على الكرامة إضافة لبقية الحقوق الإنسانية الأساسية لا يجب ولا يمكن أن تكون مشروطة باتفاق الأشخاص المعنيين بالحماية مع أيديولوجية أو دين أو أخلاق أو مبادئ القائمين على الجهة الإنسانية. بشكل مباشر، لا يمكن للأفراد العاملين في مؤسسة إنسانية أن يختاروا من يحمون ليكونوا فقط من بين هؤلاء الذين يتفقون معهم في التوجه الديني أو الأخلاقي أو السياسي، بل إن العمل الإنساني معني تحديداً بمساعدة ومساندة وحماية المختلفين، الخارجين عن الصفوف، المنفردين والذين يتعرضون للخطر بسبب اختلافهم وتفردهم. بشكل أبسط إذا كنت ناشطاً إنسانياً وتعتقد أن “سين” من الناس بكل تأكيد عاص لربه وسيكون مصيره جهنم وبئس المصير، فأنت لا تزال معني بحمايته والدفاع عنه وعن حقه في التعبير. الدفاع الإنساني لا يحتمل أحكاماً شخصية، ولا يقاس بمدى الالتزام الديني للأفراد المحتاجين للحماية، الدفاع الإنساني متجرد، وهو ملاذ الناس لأنه متجرد، لأن الكل يمكن أن يلجأ لرحابه مهما كان اختلافه أو “عصيانه الديني” أو تمرده. ومن لا يستطيع أن يلتزم بهذا المبدأ بصورته هذه الخالصة الواضحة القاسية القوية، فليس العمل الإنساني بالحقل المناسب له. هذا لا يعني بالضرورة، وخصوصاً في عالمنا العربي الإسلامي، المطالبة بحقوق الزواج أو غيرها للمثليين مما يعد غير ممكن تشريعياً واجتماعياً عندنا، لكن الكلام يعني وبوضوح، حماية حقوق المثليين وغيرهم من الأقليات الاجتماعية أو السياسية أو الجندرية أو غيرها في المحافظة على كراماتهم الإنسانية، وأمنهم الجسدي والنفسي وحقوقهم المواطنية الكاملة.
السمعة الإنسانية
ولقد انتهت كلمتي قائلة: إن هذه الهيئة، حتى تكون فاعلة وتتخذ السمعة الدفاعية الإنسانية التي يجب أن تكون لها، لابد لها ليس فقط أن تكون على أعلى درجات الحياد، بل أن تكون منحازة بشكل واضح للحالات الإنسانية وأن تكون مدافعاً شرساً عن الحقوق والحريات. وعليه، لا يجب أن ينحصر دور الهيئة هذه على ذكر الأوضاع الإيجابية في البلد، ولربما لا يجب أن تأتي مطلقاً الى ذكر الإيجابيات، فالغرض من إنشاء الهيئة ليس من المفترض أن يكون كيل المديح للحكومة أو تحسين صورتها عالمياً، إنما الغرض كما نفهمه من صيغة قانون إنشاء الديوان ومذكرته التفسيرية هو التعامل الحقيقي مع قضايا حقوق الإنسان كمؤسسة إنسانية مستقلة لا كإدارة حكومية، الغرض هو الدفاع عن الناس مهما كانت أصولهم أو أديانهم أو أعراقهم أو نوعية مشاكلهم لا الدفاع عن الإجراءات الحكومية القائمة في مواجهة هذه المشاكل، الغرض هو تحقيق نقلة نوعية في طبيعة التعامل مع مواضيع حقوق الإنسان داخل الكويت وإحداث تغييرات إيجابية حقيقية تجاه العديد من القضايا الشائكة كقضية البدون أولاً طبعاً وقضايا حقوق المرأة وقضايا العمالة وقضايا المقيمين والتحيز القائم ضدهم وقضايا كل الأقليات الإنسانية في الكويت، جينية، اجتماعية، عرقية، جندرية أو غيرها، وقضايا الحريات خصوصاً فيما يتعلق بحرية الرأي وحرية العقيدة والتعبد وغيرها من القضايا الحقوقية القائمة في حياتنا اليوم.
وانطلاقاً من تجاربنا السابقة ونظراً لوجود حالة شديدة من فقدان الثقة بين الشارع الحقوقي والحكومة للأسف، سيكون لزاماً على هذه الهيئة أن تكون واضحة وذات شفافية مرتفعة في العمل وذات منهجية ناقدة صارمة غير مجاملة تجاه القضايا الحقوقية في البلد وذلك إذا ما كانت ترمي لأن تتحقق لها ثقة الشارع وكذلك ثقة المجتمع الدولي.