تحميل إغلاق

على الحبلين

كويتيات يعتصمون اعتراضا على منع بعض الكتب من دخول البلاد

على الحبلين

صدر هذه السنة قانون نهائي مرتقب منذ فترة في الكويت بشأن إنشاء الديوان الوطني لحقوق الإنسان، والذي سيكون هيئة حكومية معنية بالقضايا والشؤون الإنسانية في البلد. إن إنشاء هيئة وطنية إنسانية هي خطوة إيجابية في أي بلد، إلا أنه في دول الشرق الأوسط، لا بد أن تحوم الشكوك حول طبيعة عمل هذه الهيئة ومدى مصداقية تقاريرها ومعلوماتها ومدى فاعلية قراراتها. فالحريات المحددة والمحظورات العديدة والديموقراطيات غير المكتملة في هذه الدول تجعل العمل في قضايا حقوق الإنسان محفوفا بالمخاطر غير مكتمل الشفافية خصوصا إذا ما أتى من جهة حكومية.

إلا أننا، ونظرا للارتفاع النسبي للحريات، والاستقرار النسبي للديموقراطية في الكويت، نترقب أداء هذه اللجنة ونعتزم استقبالها بالكثير من النقد القاسي والمباشر في حال تقاعسها أو محاباتها للحكومة. هناك معوقات قد تقف أمام عمل اللجنة، على رأسها الأيديولوجية المهيمنة على كل عمل سياسي وإنساني في الشرق الأوسط، ألا وهي الأيديولوجية الدينية.

فقد ورد في قانون إنشاء الديوان على سبيل المثال في المادة 2 منه جملة “بما لا يتعارض مع المادة الثانية من الدستور”، وهي المادة التي تنص على أن “دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع”.

هذا التداخل بين كل ما هو عمل مدني أو سياسي أو تشريع قانوني والتوجه الديني في دولنا الشرق أوسطية، هو بلا شك سبب، ليس فقط في الكثير من التحيزات والعنصريات الدينية التي لا تلبث تنفخ الروح في الطائفية والتمييز الديني، بل إنه يخلق أجواء متناقضة ويصنع طبقة ممتدة منافقة بين الناس تبدي غير ما تظهر وتتصنع لتنتفع أو لتحمي نفسها من بطش الكهنة. وفي بلادنا ينتشر الكهنة والمنتفعون من هذا الخلط المريض بين كل ما هو سياسي أو مدني والديني الذي يفرضه هؤلاء الكهنة كمنهاج دنيا وآخرة.

لقد عطلت المادة الثانية من الدستور الكويتي، من حيث اتخاذها الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسي للتشريع، الكثير من الحقوق الإنسانية في السابق. فهذه المادة قابلة لدرجات مختلفة من الفهم والتفسير مما يفتح باب الاختلاف الشديد من حيث فهم مقاصد الشريعة ومن حيث تقرير الكيفية التي يفترض أن يتطور فيها الخطاب الديني (إن تم السماح بذلك أصلا) إصلاحا وتواؤما مع العصر الحديث.

وقفت هذه المادة على سبيل المثال لسنوات طوال، وفي بيئة أكثر إنفتاحا وديموقراطية كالبيئة الكويتية، حجر عثرة أمام حصول المرأة على حقوقها السياسية في الكويت. لا تزال هذه المادة تقف عائقا أمام استكمال الكثير من الحقوق مثل وصاية المرأة على نفسها وأولادها؛ إعطاؤها جنسية بلدها لأبنائها؛ توليها مناصب قضائية؛ مساواتها بالرجل من حيث قوانين الأحوال الشخصية وغيرها؛ هذا غير عرقلة هذه المادة للكثير من الحريات في التعبير والبحث العلمي والتعبد الديني.

ولقد أشار أحد أعضاء الديوان، على سبيل المثال، الى أن مجلس الإدارة لن يتمكن من التعامل مع قضايا حقوقية كالقضايا الجندرية (المثليين) وغيرها التي تتعارض والشريعة الإسلامية.

وفي حين أن الكويت تعد بيئة أكثر تحررا وأمانا من كثير من دول المنطقة، مثلما ذكرت سابقا، مما يسمح بظهور أصوات واضحة مدافعة عن الحقوق ومحاسِبة للديوان؛ إلا أن عمل الديوان الإنساني، الذي هو بادئ ذي بدء على درجة كبيرة من الصعوبة وذي تحديات وعوائق كثيرة ومخاطر عميقة، سيحتاج جهدا مضاعفا وستكون تحدياته متضخمة بتداخل الشريعة الإسلامية به، كما وأن هذا التداخل سيجعل نقده صعبا وذا حساسية مرتفعة جدا في الشارع العام، حيث أن عملية التفريق بين العمل الإنساني الذي يتطلب حياد خالص وبين الإلتزام الشخصي الشرعي الذي هو بطبيعته متحيز وممتمسك بحقائق مطلقة لن تكون سهلة مطلقا.

يجد الشارع العام عموما في شرقنا الأوسط المثقل بهذا الخلط ما بين الدين والسياسة والعمل المدني صعوبة شديدة في تقبل الطبيعة الثورية للعمل الإنساني، فهذا العمل هو معارض بطبيعته، مراقب للحكومة، متشكك بها، موليها سوء ظنونه لا حسنها.

ويتطلب العمل الإنساني درجات مرتفعة جدا من الحياد تام والتجرد الخالص من كل ما يعتقده القائم عليه حق مطلق أو أخلاقيات مستوجبة أو تشريعات ثيولوجية ملزمة. كما وأنه يتطلب تصفية الصور النمطية من الذهن وإنهاء فكرة الحكم على الآخرين من خلال الصواب والخطأ والمقبول والمرفوض مجتمعيا، بل إن العمل الإنساني يتطلب تحديدا الوقوف مع المختلفين، مع من يحكم عليهم المجتمع بأنهم خطاؤون أو مرفوضون أو خارجون عن الدوائر الدينية أو الاجتماعية أو الجندرية الآمنة.

فإذا ما وقف العمل الإنساني خلف الخطوط الحمر المعتادة في مجتمعاتنا، وإذا ما التزم المحاذير والممنوعات والمحظورات، لم يعد عملا إنسانيا. كذلك الأمر إذا لم تتحقق له الثورية الفكرية والضمائرية التي تحمي المختلف وتدافع عن الحقوق بلا تقديس أو إعلاء لأي فلسفة أو مفهوم أو معتقد.

العمل الإنساني لا يعلي سوى فلسفة ومفهوم ومعتقد الإنسانية الخالصة المتجردة من كل تصنيف بل والمتعالية على كل الأحكام والمطلقات والعادات والتقاليد.

سيبقى الناس في مجتمعاتنا يحيون في دوائر مغلقة ويقودون حيوات متناقضة ويظهرون بأقنعة مختلفة الى أن تنفصل سلطة الدين عن السلطات المدنية والسياسية والى أن تتحقق الحريات المطلوبة وتستقر الحقوق الإنسانية الأساسية بلا خطوط حمر أو أحكام مسبقة أو لاحقة. وإلى أن تصبح الإنسانية، والإنسانية فقط، هي مقياس العمل الحقوقي في شرقنا الأوسط، سيبقى هذا العمل شائها، يمشي على الحبلين.

اترك تعليقاً