لي روجرز بيرجر، عالم حفريات أنثروبولوجي، حاملا جمجة لأحد أسلاف البشر وجدت في أفريقيا عام 2017 وتعرف بـ "هومو ناليدي"
حواء أفريقية
قبل أيام تحدثت في ندوة شبابية حول موضوع الفكر النسوي، تفرعنا خلالها إلى أحاديث عدة حول ما إذا كانت الطبيعة النسوية غرائزية أو مبرمجة، وحول دور الحركات النسوية الحالية، وحول الدور الديني وتأثيره في الخطاب النسوي، وهي النقطة التي فتحت باب نقاش حار هو موضوع هذا المقال.
منحى غريب تأخذه هذه الحوارات أحيانا حين تدخل في سياق علاقة الدين بالنسوية أو علاقة الدين بالعلم؛ الموضوعان اللذان أخذا جزءا مهما من الندوة، حيث تشتعل حساسية غامضة ويتشخصن الموضوع بدرجة يصعب معها استمرار الحوار.
أعرف طبعا أن العقيدة أمر شخصي جدا لصاحبه، وأن من الصعب الفصل بين العقيدة كمفهوم فلسفي عام يملكه الجميع عنه كإسلوب حياتي خاص وشخصي يتخلل خلايا الإنسان، لربما فعليا، ليتحول إلى قضية هوية وكرامة شخصيتين، إلا أنني، رغم ذلك، لم أتوقع المنحى الذي اتخذه الحوار.
غضبت محدثتي إبان الندوة من نقدي لمناهج التربية الإسلامية في الكويت واعتبرت ذلك استهزاء بالمسلمين الذين يشكلون أغلبية الحضور حسب تقديرها. حاولت أن أوضح لها أن نقدي أتى على طريقة التقديم لا على المادة المقدمة بذاتها، والأهم أنني أعترض أصلا على فكرة تقديم مادة ليس من الممكن نقدها في “المدرسة” أي في المكان الذي يفترض أنه المساحة الفكرية والفعلية التي تسمح بالنقد وتقدس التفكير والتشكك.
كيف تستطيع الطالبة أن تنتقل من مادة العلوم مثلا حيث مطلوب منها أن تراقب التجارب العلمية وأن تتشكك بها تطويرا لها وأن تتعامل مع المعطيات على أنها فرضيات لا حقائق مطلقة، ثم فجأة تطفئ هذه الفاعلية العقلية لتتحول إلى التصديق المطلق والقبول التام في حصة التربية الإسلامية، حيث لا مناقشة ولا تساؤل ولا تشكك ولا نقد؟ كيف يمكن للطالب أن يعيش بشخصية صحية إذا ما كان يواظب يوميا على حضور منطقة مقسومة قسمين؛ قسم التفكير فيه واجب وقسم التفكير فيه إثم. ومتحولا من الإذعان المطلق في بعض ساعات الدراسة (والتي تتكاثف الآن مع ارتفاع ساعات تدريس التربية الإسلامية والقرآن الكريم واللغة العربية التي أصبحت في مجملها تشتمل على العلوم الدينية) إلى التشكك الملزم في ساعات أخرى؟
وقد كان أن وصلنا إلى حوار غريب ما عرفت فعليا كيف أستمر فيه. تحدثت عن غرابة المفاهيم البشرية في تناقضها مع الحقائق العلمية، ففي حين أن العلم أثبت أن الامتداد الجيني للإنسان يمكن ملاحقته عبر دم الأم، لا يزال الأبناء يوعزون للآباء في ممارسة أبوية شوفينية لا يبدو أنها ستنتهي في أي وقت قريب.
تكلمت عن الاكتشاف العلمي لفصيلنا “الهوموسيبيان” والذي يمتد إلى ما يزيد عن مئتي ألف سنة منبثقا عن امرأة (يطلق عليها العلماء اسم إيف أو حواء تيمنا بالقصة الدينية) كانت تعيش في أفريقيا.
انبرت محدثتي هنا سائلة سؤالا محددا وطالبة مني بحدة إجابة محددة: هل تصدقين أنت النظرية؟ قلت لها نعم، تحمست هي تعقيبا قائلة: إذا كان امتداد البشر لامرأة، كيف إذن أفسر وجود آدم كأول البشر؟ كيف قَدِمنا نحن من امرأة إذا كان أول البشر آدم؟
يذكرني هذا السؤال بالجدالات الأخرى حول النظرية الداروينية حين يطلب أحدهم منك أن تحول قردا إلى إنسان أمام عينيه لكي يصدق النظرية، فالعمق الزمني الهائل للنظرية يجعل من الصعب تماما على العقل البشري تخيلها، دع عنك عقل بشري لم يتعرض لها علميا في مدرسة ولم تؤاتيه فرصة فهم المبادئ الرئيسية لها.
في محاولة مني لرأب صدع الحديث، حاولت أن أشير للكثير من علماء المسلمين المستمرين في محاولات التوفيق بين الاكتشافات العلمية والقراءات الدينية، وأن النظرية الداروينية ليست بالضرورة متنافية مع الشريعة، فهناك مثلا من العلماء الإسلاميين من يقول بوجود أجناس بشرية سبقت آدم مدللا على ذلك بالآية الحوارية بين الخالق والملائكة والتي تقول “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” (البقرة ـ 30)، مما يشير إلى سابق تجربة للملائكة مع البشر.
تصدت محدثتي محاولة تفسير الآية بشكل مختلف، متعدية فكرة أن هدف كلامي ليس تفسير الآية، الهدف هو إعطاء مثال على محاولة تفسير، وهي الفكرة التي يبدو أنني عجزت تماما عن إيصالها إليها.
قادنا الحوار بعدها، في مزيد من الابتعاد عن موضوعنا، لنقطة تعدد الأجناس البشرية، حيث أشرت إلى أنه في حقبة ما كان هناك ستة أجناس بشرية من البشر تعيش على سطح الأرض ـ طبقا لبعض النظريات الأنثروبولوجية.
انبرت محدثتي مجددا إصرارا على أن تلك مجرد نظريات علمية غير مثبتة. أخبرتها أنا أن بعضها مثبت بوجود أدلة. أين الأدلة؟ في متاحف العلم الطبيعي حول العالم، غير صحيح، ماذا تعنين غير صحيح؟ هناك هياكل عظمية موجودة في هذه المتاحف هي لأجناس ما بين بشرية. لا غير صحيح. كيف يعني غير صحيح. غير صحيح.
استمر هذا الحوار الغرائبي ممتدا لدقيقة أو دقيقتين عجزت خلالها عن رد نفي يثبت ذاته ويصر على نفسه حتى بوجود أدلة مادية تثبت عكسه. ذكرني هذا الحوار بمقابلة غريبة جدا لريتشارد دوكينز مع ويندي رايت، وهي يفترض أنها ناشطة في حقوق الإنسان واستراتيجية محافظة، والتي تحدثت خلالها وايت وهي ترسم ابتسامة غريبة مخيفة على وجهها حتى بدا وجهها كأنه بلاستيكي الملمس (بخلاف محدثتي التي ظهر في عينيها حماس واستياء حقيقيين)، مصرة أنه لا يوجد أي أدلة على التطور الدارويني، وحين رد عليها ريتشارد دوكينز بأن الأدلة ضخمة المقدار وأن “الدي إن إيه” (الحمض النووي) بحد ذاته هو دليل عل التطور. أصرت وايت على رؤية الأدلة المادية، فأشار عليها بأن الأدلة موجودة، فقط عليها أن تذهب للمتاحف “ويمكنك أن تري أوستروليثيبيكس، هوموهابيليس، هوموإريكتيس، هوموسيبيان قديمين وهوموسيبيان حديثين، سلسلة رائعة من الوسائط، لماذا تستمرين في طلب أن أقدم لك الأدلة في حين أنني فعلت ذلك، اذهبي للمتحف وانظري”، لتأتي طريقة ونوعية رد منها تستحق في الواقع مشاهدة الفيديو بأكمله.
المهم أن ما بقي معي بعد الندوة هو ذلك الفاصل المثير من النقاش، فحين أنني والحضور تناقشنا في بعض النظريات النسوية وتحدثنا مطولا عن إمكانية وجود حراك نسوي إسلامي وعن شعور الكثير من الصغيرات الحاضرات بالعزلة عن الحراك النسوي “المخملي” و”الغربي” (وهي المواضيع التي ربما أتناولها في مقالات قادمة) بقي ما تعلق في الهواء هو ذلك الشعور التهديدي والتكميمي لي والجارح لمحدثتي، مما علق هذا السؤال في نفسي: كيف يمكن إقامة حوار نقدي محايد مع شخص غارق في عقائدية غير قابلة للحياد مطلقا؟
لقد عجزت بلا شك عن صنع مساحة محايدة بيننا، حيث بدا الحوار، من وجهة نظري بالطبع، متصيدا لي ولكن مؤلما بحق للطرف الآخر، ولم أعرف كيف أخرج من هذه الدائرة. ترى ما كان يجب عليّ فعله حتى نخرج من حوار الطرشان هذا؟