حتى يرحمنا القدر
لا يمكن أن يبدل الإنسان الواعي الديمقراطية، مهما صغر حيزها أو ثقلت مخلفاتها، بشيء، لا يمكن أن يبدلها، لو ذاق طعم الكرامة المصحوبة بها، بأي رفاهية ممكنة مرتجاة مهما بلغت أهميتها أو حيويتها، ذلك أن لا أعز على الإنسان من حريته ولا أهم من تلك المساحة، مهما صغرت، لصوته ورأيه. لذلك، نحن في الكويت نحتفل ونحتفي بمناسباتنا الديموقراطية، رغم أنها تقبل علينا على فترات متقاربة أكثر مما يجب وعلى عكازتين، بالكاد قادرة على الخطو نحونا أو شم أنفاسها. ورغم سعادتنا واهتمامنا وتحولنا جميعاً إلى سياسيين محنكين خصوصاً في فترات الانتخابات البرلمانية، إلا أنه لا يوجد كويتية أو كويتي اليوم لا يستشعر حالة “التجمد” التي تعانيها الأرض وأهلها ومقيموها، حالة حبستنا جميعاً في دائرة مغلقة، أبقتنا عند حواف القرن الماضي، لا نحن قادرين على الفخر بإنجازاته؛ ذلك أنه مضى وولى، ولا نحن قادرين على تخطيه؛ ذلك أنه أطبق علينا قيوده بالنوستالجيا إليه. نحن في مكانك سر ومنذ زمن طال وتَمَرَّر بطعم التكرار واللا جدوى.
أثّر هذا التجمد الحياتي على كل مناحي الحياة في الكويت، فانتهت مدة صلاحية الشوارع وتدهور التعليم وتراجعت الخدمات الصحية، بل أصبح مجرد استخراج ورقة رسمية أو العثور على ملف ما في وزارة ما مهمة عسيرة طويلة الأمد. فإذا كان هذا شعور المواطن الذي لا يزال مرفهاً محمياً إلى حد كبير، فما هو شعور الأشخاص المعلقين بين السماء والأرض، ينتمون للأرض ولا يقفون بأقدام ثابتة عليها، يتطلعون للسماء ولا يطولونها؟ لا يوجد ما هو أسوء من غياب الشعور بالأمان، من غياب الإطار الذي يحوط الإنسان بهوية واضحة تضعه تحت مظلة مؤسسة دولية معترف بها وفي حمى حكومة محددة وفي ظل اتفاقيات دولية، تندرج مؤسسته الدولية تحتها، تحميه وتضمن حقوقه. وعليه، يعتبر حق الانتماء أحد أهم الحقوق الإنسانية التي أقرتها الاتفاقات والمعاهدات الدولية والذي في الحرمان منه والحياد عن المعاهدات التي تضمنه تقع أكبر الانتهاكات الحقوقية وأشرس الحرمانات البشرية وأكثرها تأثيراً على الأفراد المعنيين والمجتمعات التي يعيشون فيها معزولين مهمشين.
في امتداد الأسى تُخلق ثقافة، تُصنع حالة نفسية وذهنية تصاحب المجموعة البشرية إلى مستقبل بعيد. من المحزن إنسانياً والخطير نفسياً ومجتمعياً أن يتشكل الأسى تاريخاً، يصبح جزء من الذاكرة الجمعية للأفراد والمستمرة واقعاً مفروضاً لا أمل في الانفلات منه في وقت قريب. إن الخروج من المأساة بشكل سريع وبأقل الخسائر الممكنة هو أضعف الإيمان في وقتنا الحالي وهو مطلب عاجل ومُلِحْ إنسانياً ونفسياً ودولياً وحقوقياً، ذلك أن تركنا للمأساة البدونية الكويتية مستمرة يعني تحويلنا المستمر والعصابي لمكون مجتمعي هام في مجتمعنا لمجموعة معزولة مهمشة معذبة، مجموعة ستشكل فجوة مغتربة مجتمعياً وذكرى أسى وألم ونقطة ضعف ستلاحقنا في كل المحافل الدولية، مجموعة، رغم أنها تتكلم لساننا وتدين بديننا وتحيا بعاداتنا وتقاليدنا، هي منهكة منبوذة ليس لسبب سوى لبضع ضربات حظ تاريخية وبضع إجراءات حكومية وبضع ممارسات اجتماعية وضعتهم هنا وأرخت حياتنا هناك، لا فرق بيننا وبينهم سوى هذا الحظ الذي بنى هذا السور الخفي المؤذي بيننا.
في رضانا بالوضع البدوني الإنساني المعذب في الكويت، بصمتنا عنه وتراخينا تجاه قضيتنا الإنسانية الأولى في مجتمعنا نحن فعلياً نخلق تاريخ مواز، تاريخ سيصحبنا أبد استمرارنا ككويتيين، تاريخ سيذكرنا بنواقصنا وقسوتنا وعنفنا الذين سيتمثلون ليس فقط في إجراءات متعسفة لا منطقية، ولكن كذلك في صمت وتجاهل لربما هما الأقسى والأمر.
لا تعلقوا مئة وعشرين ألف إنسان في رقبة القدر وعلى حبال ضمائرنا لمدة أطول، البشر لا يفترض أبداً أن يكونوا مهب ريح الأقدار أو معلقات آيلة للسقوط في أية لحظة. كلنا مسؤولون عن بعضنا البعض، كلنا معلقون بأقدار بعضنا البعض، كلنا نصيغ الوطن ونؤسس الدولة، فإذا ما لم نكن إنسانيين، عمليين، منصفين، مدنيين وحقوقيين، سنقع وسيسمع صدى وقعتنا أجيال ستأتي وتدعو علينا على ما ارتكبت أيادينا. لننتبه اليوم وننصف حتى تنصفنا الدنيا ويرحمنا القدر.