حتى لا يقع المعبد
نحن في خطر، وثوراتنا في خطر، وإذا لم نع الدرس سريعاً، فسندفع ثمناً غالياً من أرواح وأموال وسنوات لا تعوض، هو درس يجب أن يعيه أول من يعيه دعاة الدولة الدينية قبل أن يقع المعبد على رؤوسنا جميعاً.
إن معضلة بسيطة مثل معضلة توحيد موعد عيد الفطر بين مسلمي منطقة واحدة ينتمون إلى أفق سماوي واحد هي دليل واضح على استحالة إقامة دولة إسلامية، أو دولة دينية أياً كانت ثيولوجيتها، يحكمها معتقد روحاني أوحد، وإن الدفع بتعزيز الحكم الديني في الدولة هو تعزيز للطائفية، وهو تمزيق للنسيج المجتمعي وتحليل لخيوطه التي ستتفرق سياسياً بين طوائف وطوائف الطوائف.
وهنا تلح الحاجة لتوضيح الفرق بين تعزيز الروحانية الدينية المجتمعية وتعزيز الحكم السياسي الديني، فالأولى تثبت قيم ومبادئ أخلاقية، والثانية تفرق وتعزز الطائفية، وعليه، فإن الرغبة في إقامة دولة حضارية مستقرة تتضارب بحدة مع الدعوة لإقامة حكم ديني فيها يفرق المواطنين ويعزز شعورهم بطوائفهم المختلفة، ويؤجج حاجتهم للصراع على السلطة والاستفراد بالقيادة تثبيتاً لمعتقدهم المذهبي الذي يؤمنون به كحق مطلق.
حاجتنا ماسة وملحة لتفهم الوضع ولتفادي الخطر المحيق، وأتذكر قبل سنتين تقريباً قمت بتلبية دعوة للشقيقة البحرين من قبل جمعية المنتدى للحديث حول الليبرالية والوضع العربي العام، وعلى هامش الزيارة، التقيت عددا من الطلبة البحرينيين في إحدى الجامعات التي نظمت ندوة لهذا الغرض، وأتذكر أن الحديث أخذ منحى ساخنا عندما أكدت حاجتنا العربية العامة، والبحرين خاصة، للحكم الدستوري العلماني الذي يحفظنا من التقسيم الطائفي.
قام أحد الطلبة مشيراً إلى علم البحرين الكبير المعلق خلفه على حائط القاعة وصرخ قائلاً: كلنا نتوحد تحت هذا العلم، ثم أسهب في شرح الحاجة الملحة للحكم الشرعي الإسلامي في البحرين. أتذكر حينها أن أحد الأساتذة مال عليّ وقال مبتسماً: أليس هذا من سخرية القدر، هذا الطالب شيعي، وهو لا يفقه الإشكالية العميقة لما يطلب.
اليوم، تأخذ هذه الإشكالية منحى دمويا في قلب الشقيقة الجميلة، فمع وجود أغلبية سكانية شيعية، وحكومة سنية، ومطالبات سابقة شعبية بل نيابية بإقامة الحكم الديني، بدا الوضع وكأن الصراع هو بين شعب شيعي وحكومة سنية، وكأن رضوخ الحكومة لمطالب الشعب العادلة هو رضوخ لسيادة مذهب.
ذات الصورة موجودة ومعكوسة في سورية، فمع وجود أغلبية سكانية سنية وحكومة علوية، تشوهت مرة أخرى المطالب العادلة للشعب السوري أمام صورة لانقلاب سني ضد الحكومة العلوية. هذا التعقيد الدموي الخطير متوقع في كل دولة فيها مطالبات قوية ومرتفعة للحكم الديني، فمثلاً، إذا ما تحقق للنواب الإسلاميين غرضهم هنا في الكويت بتحويل الحكم من دستوري إلى إسلامي، فإن أول دم سيسفك عندها هو دم طائفي، حيث سيتصارع السنة والشيعة على السلطة إلى أن يفنى الطرفان، وهذا الصراع تبدو لنا اليوم ملامحه البسيطة في الصراع الطائفي النيابي وما يتبعه من انعكاسات خطيرة على المجمع نشهد آثارها كل يوم.
فإذا كان الصراع على إيصال نواب من الطائفتين قد انعكس بهذه الخطورة على المجتمع، فلنا أن نتخيل مقدار العنف وعمق التمزق الذي سيصيبنا في حال قلبنا السياسة كلها من مدنية إلى دينية، ولنا في الجارة العراق مثال مرعب مخيف.
إن الحكم المدني العلماني لن يضمن لنا فقط أن نختلف على مواعيد الفطور وعيد الفطر بسلام واحترام، ولن يحافظ فقط على حقوق الأقليات الطائفية سواء كانت أقلية عددية كالشيعة في السعودية والسنّة في إيران، أو أقلية سياسية كالشيعة في البحرين والسنة في سورية، ولكنه سيحافظ على حقوق الأغلبية كذلك من نتيجة متوقعة للصراعات الحالية ألا وهي العنصرية المعكوسة. فنجاح الثورة السورية قد يؤثر سلباً في الطائفة العلوية هناك على أساس أنها كانت “الطائفة المستبدة” طوال فترة حكم عائلة الأسد، وهي قراءة خاطئة تماماً لتلك الطائفة التي عانت كغيرها الاستبداد، ولن ينقذ هذه الطائفة من العنصرية المعكوسة ضدها إلا حكما مدنيا علمانيا يعامل الجميع على أساس من المساواة دون النظر للتاريخ الطائفي الذي يحكِم المشاعر والروحانيات التي بالتأكيد ستخرج عن نطاق السيطرة وتحيد عن الحياد السياسي المطلوب.
نحن في خطر، وثوراتنا في خطر، وإذا لم نع الدرس سريعاً، فسندفع ثمناً غالياً من أرواح وأموال وسنوات لا تعوض، هو درس يجب أن يعيه أول من يعيه دعاة الدولة الدينية قبل أن يقع المعبد على رؤوسنا جميعاً.