تحميل إغلاق

غيرة

غيرة

لقد ساءت الأحوال حتى لم يعد الفساد طارئاً، ولم يعد الاستقرار قاعدة بل استثناء، فلم نعد الأجدر، ولم نعد الأجرأ ولم نعد الأقدر، لكننا بكل تأكيد الأطرف في تطرف أخبارنا، فأطرف حزينها يقول إنه لم يعد هناك متقدمون لإقامة حفلات في العيد، وأطرف مرعبها يقول إن نائبا في مجلس الأمة يحث على استباحة دم دبلوماسي.

كان الأجدر بنا أن نكون نحن منتجي ومخرجي ومنفذي عمل بشجاعة وجرأة وخفة دم “طاش ما طاش”، خصوصاً لهذه السنة، بكل ما في القلب من احترام وتقدير للجيران السعوديين وللعمالقة منفذي هذا العمل الرائع، فقد كان الأجدر بنا، المتوقع منا، بعد تاريخنا الديمقراطي المتفتح الحافل، أن نمتلك نحن تلك الجرأة العقلانية لنواجه أنفسنا بما حاق بنا، بعلاتنا التي رضخنا لها نعالجها بالماء المقري عليه مستبعدين كل طب جاد.

فخورة أنا بالخطوات الجادة العريضة التي يأخذها الشعب الشقيق ليخرج من الجحر الأصولي الذي انقطع بداخله دهراً حزيناً بلا شمس ولا هواء، حيث ينطلق اليوم الإخوة السعوديون متحررين خطوة بعد خطوة، بينما نحث نحن الخطى نحو الجحر القميء.

لكنني في الحقيقة لا أستطيع أن أخفي غيرتي الحارقة، وأنا أقارن إنتاجنا الدرامي الرمضاني هذه السنة بهذا العمل الفني الجريء. ليس لي أو لغيري أن يتفاجأ، فأسهم حياتنا كلها في هبوط، فساد يتلوى في رحاب حياتنا، أصولية تترعرع في جنباتها، تطرف في كل مناحيها، فلمَ نستثني الفن؟ خنقتنا دنانير تُدَس في حلوقنا كلما بدا منا محاولة لفتحها، غطت عين الشمس أسواق ترتفع أسوارها تحبس أرواحنا، سوق بعد سوق، نهدر فيها أيامنا، رغبة في ترفيه لم يعد له منحى سوى ذاك الاستهلاكي البحت، خدرت حواسنا مواد غذائية فاسدة لابد أن معداتنا أصابت منها نصيباً، أصابتنا فجيعة أرقام فلكية تخرج من حسابات وتدخل لأخرى، ونحن من يباع ويشترى. نطاول رئيس وزرائنا بالقارس الحارق من النقد والمحاسبة، وهو ما يجب أن يكون في الدولة الديمقراطية الحقيقية، ولا نكاد نطول رأس ملتح جديد أو محجبة مستتابة نسألها متى أصبحت مفتية، ومتى أمسيتَ علّامة؟ فإذا قال لنا غر صغير “حرام”، خفنا أن نسأله لمَ؟ وخفنا أن نسأل أنفسنا من هذا حتى نسأله لمَ؟ ننتهج الدين في كل جوانب حياتنا، ونرتعب أن نسأل عن أسباب ومنطقية الإفتاء البشري في هذه المنهجية، أن نحاجج مفكريها، أن نخالف متطرفيها، أن نبحث لمَ وكيف.

نخاف أن نطالب بمنطق يقنعنا، وكأن الطلب إثم والسعي رذيلة والطاعة العمياء لبشر ليسوا بأفضل منا في شيء واجب سماوي.

ليس حديثي تعميماً ولكنه بالتأكيد يشير إلى ظاهرة، فقد ساءت الأحوال حتى لم يعد الفساد طارئاً، ولم يعد الاستقرار قاعدة بل استثناء، فلم نعد الأجدر، ولم نعد الأجرأ ولم نعد الأقدر، لكننا بكل تأكيد الأطرف في تطرف أخبارنا، فأطرف حزينها يقول إنه لم يعد هناك متقدمون لإقامة حفلات في العيد، وأطرف مرعبها يقول إن نائبا في مجلس الأمة يحث على استباحة دم دبلوماسي، وأطرف الكارثي منها يقول إن هناك خمسة وعشرين مليون دينار لا نعرف من أين خرجت وإلى أين دخلت ومن اشترت ومن باعت.

بعد كل هذا نريد فنا راقيا جريئا؟ بعد كل هذا ممكن أن نتوقع عملا فنيا يسائل البنوك الإسلامية عن منهجية عملها الملتوية، يطالب بكشوفات حسابات المؤسسات الخيرية، يسخر من التطرف، يعرض معاناة المرأة، يستعرض مصيبة البدون، ينتقد الفساد النيابي والحكومي وغيرها من المشكلات الملحة التي باتت تسري بيننا كالرائحة العطنة الثقيلة؟ كم حاجزا إسمنتيا سيقف في وجه هذا العمل؟ كم غترة منشّاة ستتدخل وكم لحية ستهدد وتتوعد؟

ما عاد يجدي، وما عدنا نقدر، للأسف، نحن لا نقدر.

«آخر شي»:

عمالقة أنتم أيها الليبيون… عمالقة.

اترك تعليقاً