من تظاهرات بغداد
حب من طرف واحد
ونحن نشهد هذه الثورات المتلاحقة في عالمنا العربي يلح السؤال: ما الذي يربطنا كبشر ببقعنا الجغرافية؟ ما الذي “يصنع” هذا الولاء في أرواحنا؟ ما معنى هذا الولاء؟ ما تعريفه؟ لماذا ترتفع نسبة الولاء العاطفي عند الشعوب المنكوبة بأنظمتها وحيواتها مثلا عن تلك المنعمة المستقرة؟ فتجد هؤلاء المستقرين أشد نقدا لدولهم وأنظمتهم وأكثر راحة في تشريح متاعبهم الداخلية أمام العالم على اعتبار أن الدولة هي نظام إداري يرعى شؤونهم وبالتالي لا غبار على النقد الواضح العلني تجاهها. في حين تجد هؤلاء المنكوبين المصابين في دولهم يتغنون طوال الوقت بحب الوطن والتمسك به ولو أدار ظهره للمحب بل وبالموت من أجل ترابه الذي، في الواقع، لا يفرق “كمادة ترابية طبيعية” بين أقدام المحب وأقدام العدو.
لماذا يخرج العراقيون واللبنانيون صارخين؟ لماذا خرج المصريون، السوريون، السودانيون، الليبيون، التونسيون والبحرينيون مغامرين بأمنهم ومعاشاتهم وأرواحهم؟ لماذا ينجب الفلسطينيون أطفالا كل يوم ليقدمونهم عن طيب خاطر للقضية ولتراب الوطن مشفوعين بالزغاريد الحارقة الحزينة في المولد وفي الممات؟ لماذا يقبل الصغار الفلسطينيون أن يكونوا أضحية على مذبح الوطن بكل إقدام وشجاعة؟ لماذا لا يغادر كل هؤلاء ببساطة، فيبنون حياة جديدة في أماكن جديدة؟ لماذا نحن ملتصقون بكل هذه العاطفة والمحبة والإغراق المشاعري ببقع جغرافية ليس بيننا وبينها كبشر أكثر من الاعتياد ولم نتحصل منها على ما نستحق كبشر من أمن وحقوق؟
يقول كارل زيمر في كتابه “Smithsonian Intimate Guide to Human Origins” حول موضوع التطور والانتخاب الطبيعي أن الأخير قد شكل العواطف الإنسانية بقدر ما شكل الأجساد المادية في الواقع، حيث أن “العواطف لربما تشكلت عن طريق الانتخاب الطبيعي كذلك. علماء النفس التطوريين اقترحوا، على سبيل المثال، أن الغيرة قد ظهرت كنتاج للروابط طويلة الأمد والتي ظهرت لاحقا بين الأبوين من فصيل الهومينيد. على هؤلاء أن يستثمروا سنوات طويلة سويا لتربية أبنائهما، مما جعل من احتمالية أن يتم التخلي عن أحدهم من قِبل شريك الآخر كارثة محتملة. لربما أصبح الهومينيد حساسون جدا تجاه العلامات التي قد تتنبأ بالتخلي ـ حساسية نسميها الآن غيرة” (147 ـ 148) (ترجمة الكاتبة).
ترى أي عملية انتخاب طبيعي زرعت في سكان دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المعطوبة هذه العاطفة الهياجة من الولاء وحب الوطن واختيار الموت من أجله حتى وهذا الوطن يقمعهم، يظلمهم، بل ويلفظهم؟ لماذا نعامل أوطاننا بهذه الدرجة من الشاعرية، حتى لنموت في حبها، هذا الحب الذي هو في الأغلب من طرف واحد؟
ربما هو الشعور القديم بالاستقرار ومعرفة المحيط عند الهومينيد، هذا الشعور الذي كان يربطهم ببقعة جغرافية ما لمعرفتهم بها وبالتالي لسهولة تفادي أخطارها، حتى أنه إذا ما حان الوقت للتخلي عن هذه البقعة والانتقال إلى غيرها (وهو ما كان يحدث باستمرار بين الجماعات البشرية الأولى بسبب من نفاذ الطعام أو الماء) كان ذلك يأتي مصحوبا بدرجة عالية من التوتر والخوف، نسميها اليوم محبة وولاء؟
لماذا استمرت هذه الأعراض بكل قسوتها عند سكان الشرق الأوسط بينما تخففت منها بعض الشيء الشعوب الغربية المرتاحة سياسيا وأمنيا وإنسانيا؟ ألا يفترض بهؤلاء الأكثر استقرارا أن يكونوا أكثر تمسكا وأن نميل نحن الأكثر تزعزعا لتغيير بقعنا الجغرافية؟ كيف نفهم هذا العقل البشري وارتباطاته العاطفية؟
كل ما أعرفه أنني أدعو بصادق لساني للبنان، وللعراق، ولمصر؛ أن مشاعري تصل حدودها القصوى وأنا أرى تضحيات أبناء هذه الدول الشجعان، خروجهم الجريء الموعود بمواجهة الأسلحة والغازات السامة؛ أن مشاعري الوطنية قد وصلت سقفها الأعلى هذه الفترة وأنا أرى العالم العربي ينتفض والناس تقول، بمحبة وغضب وعتب: كفى.
لا يحكم الموقف اليوم، بالنسبة لي ككويتية، ماضينا مع العراق، ولربما للانتخاب الطبيعي قول فصل في سبب تجاوز الماضي إلى الحاضر. فالجيرة والشراكة في الدم والأصول واللغة والثقافة والحدود كلها تحتم أن نهتف لنجاحهم؛ ففشلهم يعني فشل المنطقة، معاناتهم تعني استمرار معاناتنا، عدم استقرارهم يعني انتقال عدواه إلى أجوائنا.
نحتاج نحن عراقا أفضل لنصبح كلنا، حسابيا، أفضل. نحتاج نحن للبنان، ومصر، وسودان، وليبيا، وسوريا وبحرين مستقرين لنغدو جميعا، عقلانيا ومنطقيا، مستقرين.
أتحكمنا هنا عملية انتخاب طبيعي تجعلنا بيولوجيا مدفوعين لهذه المشاعر؟ أم هو تطور في الوعي الإنساني، غير مرتبط بالمصلحة وبالسببية والتأثير، هو ما يجعلنا نتجاوز ليس فقط الخلافات ولكن حتى المصالح الملحة لنرقى إلى علاقات أعمق وأسمى؟
حتى الآن ليس هناك جواب واضح؛ فلا ارتباطنا ببقع جغرافية تقهرنا ولا سمو مشاعرنا الإنسانية التي تبدو بلا دوافع مصلحية مفهومين منطقيا. لكن ذات يوم سيخبرنا العلم بما يدفعنا دفعا ـ كهوموسيبيان ـ لهذه التضحيات الهائلة، ولربما سيأتي هذا العلم من إحدى هذه الدول الثائرة الآن، بعد أن تكون قد تخلصت من فاسديها ومفسديها وتفرغت للعلم والعمل والمعرفة. نحلم معا!