حبات الأرز
الشماتة شعور غريب، لذيذ ومشبع، ولكنه عميق الغرائزية البدائية، شعور لا يزال متعلقاً بنفوس الناس على الرغم من كل التطور الأخلاقي والمفاهيمي والقيمي الذي يفترض أنه أثر وغير في النفوس والعقول. أن تعتقد أن مصاب إنسان متوقع ومستحق يختلف عن أن تشعر بالغبطة والتشفي بسبب هذا المصاب، فالأخيران شعوران رديئان بدائيان، لا ينعكسان على الشخص المصاب ولكنهما يعكسان أخلاق المتشفي ومرضية نفسه. الكويت كلها، وتحت أنظار العالم، كانت تنتظر أحكام القضاء في قضية الدخول إلى المجلس، وجاءت الأحكام لتبرئ الشباب ولترسل للرموز الرسالة السياسية أن للمعارضة أصولها وقواعدها وخطوطها الحمراء في الكويت، وأن من يتعداها يتلقى هذا المصير.
هذه الرسالة تم إرسالها أكثر من مرة وبطرق عدة مباشرة ومتضمنة، من منا ينسى التهديد “ببلع العافية” الذي أتى واضحاً ومباشراً على شاشات التلفزيون؟ من منا لم يفكر مرات عدة قبل أن يكتب أو يقول أو يفعل بأحداث سحب الجنسيات وبسهولة وصول هذه الأحداث الى باب بيته؟ من منا لم يمزح “بجدية” حول ضرورة السكوت إذا لم يرد أن “يتجرجر” في المحاكم؟ كلنا نمزح، فنحن شعب نحب التفكه حتى إبان أشد ظروفنا قتامة، ننشر النكات على حادثة تسمم كادت تقتل المئات، نتبادل الضحكات على مخاوفنا تجاه جنسياتنا وحرياتنا، نرسل القفشات حول مصاب الآخرين وآلامهم، لربما هي طريقة للتعامل مع الألم والخوف، لربما هي طريقة نخفف بها عن أنفسنا، إلا أنها بكل تأكيد طريقة باردة حارقة، ملمسها كملمس الحديد الصدئ المكشوف في عز البرد.
واليوم، كلنا سكتنا، اختفت تقريباً كل صور المعارضة وسكنت الأجواء كافة، كيف لا والشعب يعتاش على الحكومة بشكل كامل، فالأغلبية الساحقة منا موظفة عند الحكومة، وخدماتنا كاملة مقدمة من الحكومة، وحتى هويتنا وانتماؤنا في يد الحكومة، حتى باتت المزايا أحمالاً ثقيلة تخرس الأفواه وتقطع الألسن، وحتى أصبح الصوت المعارض صوتاً يبدو جاحداً، ولذا يبيت مهدداً بفقدان تلك المزايا التي لم يحمد حكومته عليها. تلك ظاهرة خطيرة جداً، خطرها يظلل الحكومات والأنظمة قبل الشعب ذاته، فالدولة التي لا يعلو فيها صوت معارض، لا يوجد فيها متنفس، يبقى الناس ينضغطون فيها كما حبات الأرز في قِدر مغلقة بإحكام، حتى يحترقوا وتنفجر القدر، أو حتى يذوبوا ويختفوا ولا يبقى غير قدر… محروقة.
القضاء قال كلمته، وأنا شخصياً أود التمسك بإيماني بعدالة القضاء رغم الشكوك، فالقضاء هو صمام أماننا الأخير. كما أن القضية قضية استشكالية، ليست هي بالحجم الذي تنفخ فيه الحكومة، إلا أنها ليست كذلك ببسيطة خصوصاً في ظل ظروفنا الماضية والحالية. كل تغيير له ثمن، وإذا كان رموز المعارضة يعتقدون أنهم يدفعون بالتغيير، فيستوجب عليهم دفع الثمن وإن كان غير مستحق، وهو ما يحدث الآن، وهي سنّة الحياة تجاه كل تغيير. لربما يجب أن يكون السعي الآن تجاه التغيير الحقيقي للمنظومة القانونية التي تتعامل مع قضايا الرأي ومع “أفعالها”، مرفقاً كذلك بمحاولة تغيير الفكر العام للشارع الكويتي ونظرته ودرجة قبوله لمخرجات الحرية. هذه التغييرات، بصعوبتها وطول مدتها وما ستتطلبه من صراع مرير، ستكون هي المعركة الحقيقية وستبقى هي الهدف الأهم الذي سيأخذنا خطوة واضحة للأمام.
مبارك أحكام البراءة، وأعان الله المحكومين على تقضية أحكامهم، ولربما يتغير الطريق اليوم، لربما يخلق الشباب ذاك الطريق الذي طالما حلمت أنا شخصياً به، طريق ثالث، قوي معارض كما الناقوس يدق على رأس الحكومة ولكنه في الوقت ذاته لا يتبع رموزاً ولا ينقاد لأشخاص، طريق جديد يحفره الشباب على قدر خطوهم.