جيكر
الرفض الحقيقي للدموية لا يجد تبريراً ولا يعرف سبباً ولا يجد تفهماً للوحشية أياً كان سببها أو مصدر صنعها، فإذا ما كانت «جهة عميلة خارجية» هي التي صنعت “داعش” فمن هؤلاء الذين يكتبون التبرير بعد التفسير، والذين يسطرون المقال بعد التقرير حول فاعلية هذا العقاب وأحقيته وقبوله الديني؟
كل ما سيقال من نقد ونعي حول مقتل الكساسبة سيغدو “كليشيهاً” مائعاً، لم يعد لشيء يقال طعم، ولم تعد الكلمات ترقى لفداحة المصاب، هذا المصاب الذي لا يعرف العرب والمسلمون كيفية التعامل معه سوى بالمقارنة الطفولية المريضة، فمثلما كانت مجزرة “شارلي إيبدو” نتاج تدخلات وتآمر الأنظمة العظمى في العالم، كانت مذبحة الكساسبة نتاج خيانة وتعاون الأنظمة العربية مع هذه الأنظمة التي تمول الإرهاب في دولنا، ومثلما تمت مقارنة ضحايا المجزرة الأولى بالضحايا من المسلمين، تمت مقارنة مقتل الكساسبة بمقتل الآلاف غيره على أيدي أنظمتهم، وكأن توازن كفتي الميزان الدموي مبرر، وكأن الظلم إذا عمّ عدل، وكأن العين بالعين قانون عادل لا يخلق مجتمعاً كاملاً من العميان، عميان البصيرة قبل البصر.
مقرف الحوار الدائر، مقرفة كل محاولة تبرير وتحليل، مقرفة محاولة إلقاء اللوم على كل شيء وأي شيء وأي شخص إلا أنفسنا، إلا سكوتنا عن التطرف يترعرع بيننا، إلا قبولنا بالقراءة المتطرفة للدين، وتبجيلنا لكل معتوه يتكلم باسمه. استنكار متوارٍ تتبعه مقارنة قميئة تلقي في لبها باللوم على الكساسبة كونه جزءاً من المنظومة الحكومية التي لها جرائمها كذلك، وكأننا جميعاً نعمل لحساب مقاومة خفية، أو كأن وظائفنا هي جزء من تشكيل حكومي خالٍ من كل فساد.
إن استنكار الجرائم يعيبه أن يكون متبوعاً بـ”لكن”، فالرفض الحقيقي للدموية لا يجد تبريراً ولا يعرف سبباً ولا يجد تفهماً للوحشية أياً كان سببها أو مصدر صنعها، فإذا ما كانت “جهة عميلة خارجية” هي التي صنعت “داعش” فمن هم هؤلاء الذين يكتبون التبرير بعد التفسير، والذين يسطرون المقال بعد التقرير حول فاعلية هذا العقاب وأحقيته وقبوله الديني؟ كلهم عملاء؟ كلهم متأثرون بالمنظومة الأجنبية الدخيلة؟ ليس لعقولنا المنغلقة على ألف سنة ولا لتوحشنا المنتسب إلى حروب وفتوحات، ولا إلى تخدر إنسانيتنا بفعالية قصص تاريخنا المليئة بالقتل والدم أي أثر أو تأثير؟
والسؤال الأنكى والأمرّ: هل كان من الممكن إنقاذ الكساسبة؟ هل أرادت الحكومات العربية، التي يتهم هو بأنه جزء من منظومتها، إنقاذه أم أن في موته عظيم الفائدة لهم؟ ألن تبقى صورة هذا الشاب تلتهمه نيران التخلف والتطرف والعته بارزة بازغة في عقولنا لربما لعقود من الزمان دافعة بنا للتمسك بحكوماتنا مهما ظلمت واستأسدت من منطلق أنها أهون الشرين؟ أليست هذه هي أعظم نتائج هذه الجريمة المنكرة من حيث تثبيت أقدام الحكومات ولو على رقابنا تفادياً للاختيار الوحيد الآخر المتمثل بالتنظيمات المتطرفة المتوحشة؟ إننا لعبة، إننا ورقة يرميها الكبار على الطاولة الخضراء، بعضنا ورقة رابحة مهمة، وبعضنا ورقة يمكن التضحية بها، وبعضنا ورقة يمكن مبادلتها، وبعضنا “جيكر” يأكل كل الورق على الأرض.
احتراماً للدماء المسكوبة، واحتراماً لحرقة القلوب، فإما عزاء لأهل الأردن غير مشروط ولا متبوع ولا مشفوع، وإما الصمت التام الذي هو لربما أشرف ما يمكننا كعرب ومسلمين اليوم، فهل يمكن أن أتمنى لك أن ترقد بسلام يا كساسبة؟