ثقافتنا التي ستخنقنا
دائماً ما تبدو الطريقة الهوليوودية فجة وساذجة في وضوح دفعها بأجنداتها المختلفة. كل بضع سنين، تتغير أجندة هوليوود، ومعها معظم الإعلام الغربي، تجاوباً مع المؤثرات السياسية والاقتصادية التي تدفع بالاتجاهات الجديدة، لتشعر بقية مجتمعات العالم بهذا الضغط الأيديولوجي، وكأن الغرب بإعلامه المؤثر وهوليوود بقبضتها المحكمة على انتباه ووعي الناس يدسون الأيديولوجية الجديدة دساً مغلظاً في الحلوق حتى ليكاد المتلقون يغصون بها اختناقاً.
آخر ما أتذكر بوضوح من أجندات هوليود هو الترويج للأقليات، فبعد عقود إن لم تكن قرون من اضطهاد اليهود والسود وذوي الأصول اللاتينية (العرب لم يكونوا ولا يزالون غير مشمولين في هذه الصحوة الإعلامية)، أصبحت تراجيديا اضطهادهم وكوميديا الدفاع عنهم والضحك من العنصريات المختلفة تجاههم هي أبرز المواضيع الإعلامية الغربية في العالم الغربي عموماً وفي هوليوود خصوصاً. اليوم، أحد أبرز المواضيع الحقوقية في العالم أجمع هو موضوع التعددية الجندرية وحق التعبير عن الهوية، وهو الموضوع الذي حملته هوليوود بكل حماسة على صدرها «المليء بالمجوهرات» لتبالغ بعرضه مبالغة فجة ولتفرضه على أنه الحراك الحقوقي الأول الجديد في العالم أجمع دون تقديم ولو مجرد شرح بسيط تاريخي وأيديولوجي وعلمي للموضوع لبقية جماهيرهم ممن ينتمون لثقافات وحراكات مختلفة حول العالم، لترتد الحركة تضاداً مع الهدف المرجو بين هذه الشعوب المختلفة.
ولأننا مبرمجون سياسياً وتاريخياً لنتذوق كل ما يقدمه الغرب على أنه علقم، دوماً ما تأتي ردود فعلنا تجاه الحملات الإعلامية الغربية مستشعرة ذات المرار، حتى تجاه المواضيع غير المختلف عليها، كمواضيع الأقليات أو بعض المواضيع العلمية والحقوقية التي تأخذ على يد هوليوود شكل حملات متكررة مملة مفروضة فرضاً، وبالتالي مكروهة تلقائياً. ما زلت أتذكر فيلم ديزني الذي ظهر في أواخر التسعينيات لقصة سندريلا، حيث سيندريلا سوداء وعربتها سوداء، وهو التنوع الرائع في هذا الإنتاج، إلا أن الأمير كان ذا ملامح شرق آسيوية، في حين كانت والدته الملكة سوداء، بينما كان والده الملك أبيض، مما صنع خلطة غريبة خيالية مفرغة من أدنى تفسير لهذا التنوع البشري الموجود في أسرة نووية واحدة، مثلاً كالتنويه إلى تبني الأمير، وذلك منعاً لهذه الفجاجة والسذاجة في عرض التنوع والاختلاف. في الحقيقة، أتصور أن هذا الفيلم دفع بخيالية القصة واستحالتها أكثر مما دفع بامكانية تحقيق قيمتها الأخلاقية، وذلك بسبب من هذا الخلط الغريب المفروض فرضاً والمدسوس دساً على القصة، مما دحض الهدف النبيل بحد ذاته القائل بطبيعية التخالط واستحقاق كل الأجناس على الأرض.
إلا أن هذه الفجاجة في التقديم والإلحاح والفرض لا يجب أن تغيِّب حقيقية وواقعية واستعجال الكثير من المواضيع المطروحة، لا يفترض أن تضع هذه الفجاجة تلك المواضيع المطروحة في خانة الرفض المباشر أو أن تؤطرها فورياً بإطار المؤامرة. الغرب يتصدر مشهد الحريات والحقوق، ذلك لأنه صاحب الحضارة السائدة اليوم ولأنه أخذ خطوات ضوئية، مقارنة بخطواتنا، في اتجاه تشكيل المفاهيم الحقوقية الإنسانية وفهم المناحي العلمية لكل التصنيفات التي كانت تستثير، ذات زمن، العنصريات والأحكام التمييزية. لا غبار في أن نحاول أن نفهم ثم نصلح ثم نعيد تأهيل مجتمعاتنا حقوقياً بما يتناسب وثقافتنا، هذه الثقافة التي تبدو دائماً كالعصا في الدولاب، حيث ما زالت تستخدم خصوصيتها إلى اليوم لتمييع مواقفنا الإنسانية ولحجب خطواتنا الفاعلة باتجاه المستقبل.
لا عيب في مراجعة المعلومة والفكرة، لربما أتى العلم بجديد يغير المعلومة، فإذا تغيرت لربما معها تتغير الفكرة. العبودية وملك اليمين حلال في الإسلام بل وكانت هذه الممارسة جزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الإسلامي وأحد أهم المؤثرات الجاذبة مالياً لدخول الناس جمعياً في الإسلام وعداً بالعبيد والسبايا كغنائم حرب، إلا أن النفس تنفر منه اليوم كما تجرمه القوانين المدنية والمفاهيم الحقوقية، حيث لا يمكن لأحد بكامل قواه العقلية أن يشجع الاستعباد كممارسة مجتمعية مقبولة. التعدد الجندري واختلاف الهوية الجنسية من المحرمات في الإسلام، إلا أن العلم يكشف جوانب بيولوجية ونفسية وهوياتية كل يوم، لربما لو اطلعنا وفهمنا، قد يتغير الموقف المجتمعي وقد نستوعب جوانب غائبة حاضرة دون الدخول في خلاف أصولي مع العقيدة، أقول غائبة حاضرة لأنه لا مجتمع إنسانياً خلا في يوم من هذا التعدد الجندري ومن تلك الأزمة الهوياتية منذ بداية البشرية، وهي جزئية تستدعي بحكم أزليتها واستمراريتها، وكون هذا التعدد جزءاً لا يتجزأ من كل المجتمعات الحية، بما فيها الحيواني بل والنباتي كذلك، إعادة الفهم والتقييم. التغيير، حتى الجذري منه، غير مستغرب على القاعدة الشرعية الإسلامية، وإن كان شديد الصعوبة وطويل الأمد، إلا أن هناك سوابق عدة تبين وقوع مثل هذه التغييرات والتحولات، فلماذا كل هذه المقاومة لمجرد عملية الفهم والمراجعة والتفكير؟
فقط لأن هوليوود فجة التسويق لا يجعل ذلك الموضوع مؤامرة أو صفقة، فقط لأن الغرب يركب موجة، حيث البشر دوماً يتحركون أيديولوجياً في موجات، لا يجعل ذلك الموضوع غزواً فكرياً يستدعي النضال المضاد. كل الحراك الغربي جانباً، ألا يستدعي الكثير من المواضيع الحقوقية والحرياتية التي ترسخت مفاهيمها التراثية القديمة في عقولنا إعادة دراسة وتقييم؟ بخلاف موضوع التعدد الجندري، ألا تستحق مواضيع مثل حكم «الارتداد» عن الإسلام، أحكام الجهاد، الأحكام الشرعية للزواج والطلاق والإرث، أحكام ضرب الزوجة وتعدد الزوجات وغيرها من القضايا التي أصبحت تتسبب في حرج كبير للعالم الإسلامي غير القادر على تبريرها أمام العالم أجمع، ألا تستحق هي وغيرها إعادة تفكير وتفكيك وصياغة، سواء هاجمها الغرب أم لم يهاجمها، وسواء قدمها في إنتاجه الإعلامي بفجاجة أو لم يفعل؟