بيت جديد
للشعوب في كثير من الأحيان صفات جمعية تنتج عن أسباب عدة، وعلى الرغم من النفس العنصري لفكرة قولبة مجموعة كبيرة من البشر، فإن الدراسة الجادة لهذه القوالب قد تقدم تشخيصاً ودواء. تنتج هذه القوالب عن ظروف عدة، فالشعب الذي تسوده دكتاتورية قمعية، تصبح له سمة عنيفة جسدية ونفسية في العموم، والشعب الذي يعايش ظروفاً اقتصادية بالغة الهبوط، تشمه رغبة فارطة في جمع المال، وهكذا.
طبعاً، يمكن لهذه السمات أن تتعدد في الشعب الواحد، فمثلاً شعبنا الكويتي، بعد أن ظهرت عليه سمة تلاحمية رائعة إبان الغزو، حولته سنوات طويلة من سياسات الرشوة الممنهجة والرخاء البليد إلى شعب استهلاكي أناني، وبالرغم من ارتفاع نسبة العمل الخيري بين أفراده، فإن الأنانية، مصحوبة بالفخار والشعور بالأفضلية والرفعة على بقية الناس، هما متلازمتان بيننا لابد من الاعتراف بهما قبل الإقدام على أي محاولة نافعة في تطبيبهما.
إنها سنوات من سياسة “البلد المؤقت” التي قدمتها لنا حكوماتنا دافعة بنا إلى اقتناص كل الممكن من خيره قبل أن يصل إليه الآخر، كل ذلك دون وعي منّا بمدى تغلغل هذه السياسة في أعماقنا؛ الرشوة والوساطات وما ينتج عنهما من تراخ مرعب في تطبيق القانون وضعتنا جميعاً في حلبة سباق، نجري في دوائر مغلقة، والسبق لمن يصل إلى “الواسطة” الأقوى أو لمن يدفع الرشوة الأعلى.
في غياب التنظيم وحضور المال، تخلق الفوضى، ومن رحم الفوضى تخلق المخاوف التي تصنع الأنانية، فلا يعود هناك خوف جمعي على الدولة ومواطنيها ومجتمعها، ولكن مخاوف فردية على ضياع الحقوق أو التخلف في سباق القنص. في خضم هذه الأنانية والشعور بالأفضلية، تتوه بيننا حقوق الحلقات الأضعف في المجتمع، فبينما ينظر المجتمع الكويتي بالكثير من الرحمة إلى الطبقات المجتمعية المرتفعة المعاناة، فإن الشعور لا يتعدى الرحمة إلى أي محاولة جادة لتحسين الأوضاع دفعاً بالمساواة التامة في الكرامة الإنسانية.
ففي العموم، يحنو الشعب الكويتي على عمالته المنزلية، لكننا لا نعاملهم كمتساوين لنا تماماً في الكرامة الإنسانية، فهم لا يملكون الحقوق عينها التي ننسبها لأنفسنا، وفي غياب قانون يحدد ويفرض هذه الحقوق، يترك الأمر لرحمة الخلق وعدالة نفوسهم. كذلك الحال بالنسبة إلى كل الطبقات الاجتماعية الأخرى التي، وإن علت الطبقة العاملة، تتلقى معاملة ناجمة من ذات العقلية المترفعة، حيث تتجلى هذه الحقيقة في المعاملة المجتمعية التي يتلقاها الوافدون و”البدون”.
لا يمكن إنكار أن الكويتيين جُبلوا على صنع الخير والرحمة بالآخرين، إلا أن هذه مفاهيم قديمة تعداها الزمن، فلم يعد الإحسان والرأفة كافيين لوضع مجتمع متقدم على ركائزه، بل يمكن القول إن هذه المفاهيم تكاد تختفي في الوقت الحاضر ليحل محلها مفهوم الحقوق الإنسانية. فعمل الخير لم يعد تعطفاً بل أصبح واجباً على الطبقة الغنية التي إن تمسكت بأنانيتها أخلت بميزان المجتمع ككل؛ لذا، تفرض الدول المتقدمة الضرائب، ولذا تخلق سياسة مجتمعية تزرع بين الناس مفهوم المصلحة العامة والتي من دونها تتقطع أوصال المصلحة الخاصة، أي أن مصلحة الفرد وصلاحه يُبنيان على مصلحة البشر حوله وصلاحهم، فإن خرب هذا، تبعه خراب ذاك.
لقد أظهرت قضية “البدون” الثائرة بيننا الآن أمراضاً اجتماعية خطيرة نحتاج كمجتمع أن نتعاون في التخلص منها. لست هنا أتناول نوعية الحلول المطروحة بيننا ككويتيين، فالاختلاف حول تلك متوقع، ولكنني أتحدث عن التعامل النفسي والعاطفي، عن التناول الحقوقي في الموضوع، والتي بمجملها تدلل على أن مرضاً ما يحبو بيننا، على أن المال الوفير مصحوباً بالفساد الكثير قد خلقا وباءً تمطت رائحته بين جدران بيوتنا، على أن العلياء والأنفة مصحوبين بمفهوم الإحسان القديم قد خلقت جميعها حالة من الاستعباد الطبقي هي المتسبب الأول في تقوض أي شعب مهما كبرت مداخليه.
نحتاج إلى علاج جمعي، وقد تكون الانتخابات الحالية أفضل مشخص لحالتنا المرضية، النتائج ستشير إلى مكامن العلل، فلنقتنص الفرصة ونهاجم المكامن، ثم نعد نقضي فترة النقاهة ونحن نرتب بيتنا النفسي، ونعيد صباغة غرفه العاطفية واضعين في كل زاوية من زواياه الجميلة تمثالاً مهيباً لحقوق الإنسان.