بلكونة
في الهدوء الشديد تسمع نفسك بشكل أفضل، تلاحظ التفاصيل حولك بشكل أدق. كتبت الأسبوع الماضي عن آثار التباعد الاجتماعي عن المحيط الخارجي على حياتي وعلى درجة إدراكي لتفاصيل صغيرة في حيوات من حولي. كان ذلك الأسبوع الماضي، وشتان بين الأسبوع الماضي والحالي.
منذ يوم أحد هذا الأسبوع تم فرض حظر تجول في الكويت من الساعة الخامسة عصرا وحتى الرابعة فجرا، وعلى الرغم من أن هذا الحظر لم يغير من حياتي كثيرا، فأنا لم أخرج من منزلي مطلقا منذ بدأت فترة الحجر المنزلي وإلى ساعة كتابة هذا المقال، إلا أن شيئا ما في الجو العام خبا وتضاءل.
اتسعت الشوارع وصفا الجو، بل أكاد أقول إننا نستشعر انخفاض درجة الحرارة اليوم بشكل ملحوظ، لربما لانخفاض نسبة انطلاق الغازات من عوادم السيارات وتراجع كل مصادر التلوث الأخرى إلى حد غير مسبوق. إلا أنه مع اتساع الشوارع وصفاء الجو، صغرت المساحات وتضاءلت الدنيا. العالم كله أصبح على شاشة التلفون، قرب ما عهدناه من قبل بيننا كأرواح، وبعد ما اختبرناه بيننا كأجساد، كأننا من جهة نتلاصق ومن جهة أخرى ننفصل تماما في حالة شد عصابية جمعية لم تمر بها البشرية من قبل.
وهكذا انفصلت الأجساد وتباعدت الوجودات المادية إلا أن الأرواح اقتربت حين شعر الناس بقسوة التباعد وبحاجتهم الملحة لبعضهم البعض. في الدول الأوروبية حيث يسكن الناس الشقق ذات البلكونات الصغيرة، تشابك الناس غناءً ورقصا من هذه المَطلات المعلقة مترية المساحة. أصبح الغناء تحديدا، في الدول الغربية، وسيلة اتصال يعوض بها الناس اللقاءات والتقاربات الجسدية.
في دولنا الخليجية، حيث نسكن البيوت الكبيرة المحرومة من المطلات والبلكونات، لربما بفعل الطقس أو بفعل العادات الاجتماعية المحافظة، حيث نختفي خلف حوائط متباعدة، وحيث من الندرة أن تجد أصحاب البلد الخليجيين يعيشون في شقق متجاورة يمكنهم التواصل من خلال بلكوناتها، خيمت مشاعر الوحدة والانعزال بقوة. ولأننا شعوب تعودت التزاور الملح والتواصل الاجتماعي الذي يتخذ شكل الواجب المقدس، كانت درجة صعوبة الانعزال الاجتماعي كبيرة جدا على المجتمعات العربية، وتحديدا على الخليجية منها.
لربما هذه الطبيعة التزاورية الملحة هي أحد أهم أسباب فرض حظر التجول في الكويت، حيث لم تتوقف الديوانيات الرجالية عن الالتقاء، وحيث يستمر الأبناء في زيارة منازل أهاليهم يوميا، وهي زيارات لا يجدون في الوباء القاتل سبب كاف أو مقنع لإيقافها.
واعتمادا على اطلاعي وترجمتي لعدد من المقالات والخطابات العلمية المتخصصة التي أجاز لي أطباء كويتيون ترجمتها ونشرها، كتبت توضيحا على حسابي على موقع تويتر بأن التباعد الاجتماعي يفترض أن يشمل كل تحركاتنا، بما فيها الزيارات العائلية: لا تزر أهلك، لا تستقبل أحفادك، لا تتلاقى مع أي كان من غير من يعيشون معك في منزلك. أتت الردود مستغربة مستنكرة حيث لم يتصور الناس أن فكرة التباعد الاجتماعي تشمل حتى زيارات آبائهم وأمهاتهم، وتعني الانقطاع عن الأبناء والأحفاد. إحداهن كتبت تستنكر كلامي الذي لن يمكنها من زيارة والدتها المسنة، وآخر كتب يقول “أسهل ننتحر”. في عارض ردي أخبرت الأخير بكلمات مخففة أن الاستمرار في هذا النهج هو الانتحار بحد ذاته، هو ليس انتحارا فقط ولكن لربما “شروع في قتل كذلك”.
فكرة غريبة أن يتصور البشر أن الوباء لا ينتقل لك ممن تحب، أنك لا تستطيع أن تنقله لمن تحب، فقط الغرباء يضرونك، أما أحبابك، فهؤلاء لا يلتقطون مرضا ولا يوردونه، آمنين ومؤتمنين فقط لأنهم أبناؤك، أحفادك أو والداك. نحن البشر نريح أنفسنا بأفكار غريبة كوميدية غاية في اللامنطقية.
تلح عليّ اليوم قيمة البيوت الصغيرة ذات البلكونات المتلاصقة. اليوم أرسلت لجاراتي أسأل عنهن. أما كان أجمل لو أنني استطعت أن أطل من شباكي أو بلكونتي فأناديهن وأرى وجوههن وأتسامر معهن؟ لربما ذات القرب هذا مصدر للخطر، ولكنه يبدو الآن مصدر لحمة ورحمة.
يلح عليّ كذلك ضميري تقييما لأحكامي المسبقة، حيث كنت أعتقد الزيارات الاجتماعية العصابية التي لا تتوقف في مجتمعاتنا معظمها استعراضي، مبالغ في مظاهره، مسرحي في تصرفات أفراده، إلا أنه تجلى اليوم حاجة ملحة، ضرورة من ضرورات حياة الإنسان العربي، الخليجي بالذات.
لا يجتمع الناس استعراضا أو استسلاما لواجبات مجتمعية مفروضة غالبا عندنا، هم يجتمعون لأنهم لا يستطيعون أن يحيوا بلا ذلك، لأنها حاجة إنسانية عربية خليجية التكوين الجيني تحديدا، لا يمكن للحيوات هنا أن تستمر طبيعيا دونها. وعليه، تجد المعاناة متصاعدة بين الناس التزاما بأوامر الحجر والحظر، حيث مقاييسهم بعيدة عن الوضع القائم، ممارساتهم غير المسؤولة كوميدية المنطق، تواقة البواعث، لا يجدي معها معلومة طبية أو تفسير علمي.
حين قلت لصديقة ألا تزور، قالت: عشر دقائق فقط؛ وحين قلت لقريب لي أن يبقى في البيت رد أن ديوانية واحدة فقط، و”ما راح يطول”؛ وحين نصحت عزيزة عليّ أن تمنع زيارات أحبتها تحججت بعدم قدرتها منع الأولاد والأحفاد من الزيارة، “لا بد أن يتغدوا عندي كل كم يوم”. تؤرقني وتغضبني هذه الردود، لكنني لا أملك عليها سلطة ولا على أصحابها حق، رغم أنهم يملكون على صحتي وسلامة بلدي وكل من فيها كل السلطة. إنها معضلة ثقافية اجتماعية بامتياز.
بالعموم، نفسيتي طيبة راضية، مقدرة تماما الإجراءات العظيمة التي تتخذها دولة الكويت والخدمات الرائعة التي تقدمها. أخجل الشكوى من ملل أو ضجر وأنا آمنة في بيتي وحياتي، فيم إخوة لي في البشرية في بقاع أخرى من العالم يموتون بالآلاف دون أن يكون لهم شيء من حظي في الحياة. إنها الحياة بقسوتها وانعدام عدالتها و”حظية” توجهاتها وأحكامها. يسوؤني تضجر الناس وشكواهم، البشرية كلها تمر بمحنة مهيبة، الكرة الأرضية كلها تأن (أم هي تصفي نفسها وتتنفس؟) والبعض لا يرى أبعد من حرمانه من الخروج أو زيارة، وآخر لا يرى أهم من تكديس المواد الغذائية والتموينية.
أعلم أن لكل هذه المظاهر تفسيرات نفسية علمية، وأدرك أنني ربما قاسية الأحكام، ولكن الوقت لا يحتمل والمحنة لا تتعاطف، الوقت وقت ضبط النفس، رفع درجة التراحم والإنسانية، وخفض درجة الدلال الاجتماعي والممارسات العاداتية. إنها حرب من أجل البقاء، فلنعي حجم المعركة، ولنتثقف في أدوات خوضها، ولنعترف بضعف موقفنا فيها. إذا حكمنا العقل، وأعملنا رحمة القلب، وفعلنا الإرادة والضمير… سننتصر