انقلاب على الحريات أم تعزيز لها؟ في الموجة الصاعدة للحقوق المعاصرة 1
كانت نظريات النقد النسوي والتعددية الجندرية، تحديداً، هي أحد أهم و«أجدد» روافد الدراسات الإنسانية إبان تسعينيات القرن الماضي حين كنت أنا طالبة دراسات عليا. أسرتني هذه الدراسات تماماً، أولاً بحكم أنني أنثى مولودة في عالم ذكوري المنحى، وهذه وضعية تخلق نسوية فطرية في كل أنثى منا تأتي لهذه الحياة، وثانياً بحكم الطبيعة الآسرة والثورية تماماً للعلوم البحتة والإنسانية والفلسفية التي كانت هي أعمدة هذه الدراسات النسوية الجندرية، التي شكلت نقلة نوعية تماماً في تطويرها والانتقال بها، أي هذه الدراسات، إلى رحاب القرن الحادي والعشرين، رحاب أكثر إدماجاً وشمولية. فهمنا وقتها أن الحياة أكثر اتساعاً من الحدود التي نراها ونستشعرها، خصوصاً في مجتمعاتنا متعددة الخطوط الحمراء، وأن البشرية أكثر تعقيداً وعمقاً من تقسيماتنا الثنائية الساذجة التي تضعنا كبشر في أطر بيولوجية وجندرية محددة وواضحة وثابتة حد القمع الجسدي والنفسي الذي أودى بالكثيرين «الخارجين» عن هذه التقسيمات الصارمة لفقدان هوياتيّ ومعاناة نفسية وأذى جسدي وروحاني أفضى أحياناً إلى الموت.
لقد حولت علوم القرن الحادي والعشرين التقسيم «الباينري» للذكر والأنثى إلى تقسيم «البداية»، أي أنه تصنيف نبدأ منه ولا نقف عنده، فالعلوم البيولوجية والجينية والنفسية والسيكولوجية تشير إلى تعددية مهمة بل وواسعة الانتشار، تدعو كل إنسان عاقل وعادل وعلمي المنطق أن يعيد النظر والتفكير فيما فاته من تفاصيل حول جنسنا البشري منذ بداية ظهوره على سطح الأرض، أي من أكثر من مئتي ألف سنة مضت، جراء المحددات الكثيره والثقافات المنغلقة على الأفكار الأبوية التي ترفض تماماً أي محاولة لمناقشتها أو مراجعة فحواها التقليدي عنيف الصرامة. في ذلك لطالما بدا اليسار الفكري أكثر منطقية خصوصاً فلسفياً وحقوقياً، بدا أكثر بحثاً وحثاً على مفاهيم العدالة الاجتماعية والمساواة، كما وتبدى أكثر واقعية في مواجهته لطبيعة الذات الإنسانية، لإشكالية متغيراتها، ولمعضلة فنائها. أثبتت سيمون دي بوفوار نفسها رائدة الحركة الفكرية النسوية مع بداية القرن العشرين، حين تساءلت عن مفهوم eternal feminine أو الأنوثة الأبدية، وحين طالبت بالإجابة على سؤال «ما هي المرأة؟» وهو السؤال الذي فتح أبواب المبحث الفلسفي للهوية الجندرية الأبعد من تلك البيولوجية. أما بيل هوكس، التي برزت في منتصف القرن العشرين فقد كتبت مبتعدة بتعريف النسوية عن نضال المساواة البسيط إلى نضال معقد ينهي كافة أشكال التمييز العنصري، التي منها الجندري. في حين أن كريستين ديلفي المعاصرة كتبت تسائل العلاقة بين الجنس والجندر والميول الجنسية قائلة في مقالها “Rethinking Sex and Gender” إن «علينا أن نكون جاهزين للتخلي عن قطعياتنا ولقبول الألم (المؤقت) للغموض المتزايد تجاه العالم. فأن تكون لدينا الشجاعة لمواجهة المجهول هو شرط للخيال، والقدرة على تخيل عالم آخر هو عامل حيوي للتطور العلمي». تسائل ديلفي في مقالها كل التقسيمات القطعية بين الجنسين وما إذا كانت طبيعية أم نتاج برمجة مجتمعية، كما أنها تتساءل حول تعريفنا للبشر بجنسهم قبل هويتهم الجندرية، فتقول: «إن حقيقة اقتراح أو الاعتراف بأسبقية الجنس، ولو ضمنياً، تقود إلى أن يتم تصنيف الشخص، موضوعياً، من خلال نظرية بحيث يسبب الجنس، أو يفسر، الجندر» (الترجمة لي).
إلا أن فحوى هذه العلوم والدراسات الرائدة ليست حقيقة جديدة على البشرية. فمواصفات الذكورة والأنوثة ليست في الواقع محفورة على صخور المجتمعات الإنسانية كما يخيل لنا، فهناك مجتمعات تتعدد فيها تصنيفات الجنس البشري منذ بداية تشكلها واستمراراً لحد اليوم، كبعض المجتمعات الهندية القديمة التي يتقسم فيها الجنس البشري إلى خمسة أجناس فرعية، بل وهناك مجتمعات أثرية كانت تنطوى على اللاجنسية كتعريف اجتماعي لبعض أفرادها، وعليه فإن فكرة تعددية التعريف ومرونة الأطر الجنسية والجنسانية ليست بالضرورة مستحدثة ولا هي صناعة غربية كما يتصور البعض. كما أن التعددية الجنسية والجندرية ليست بموضوع جديد، فإن اضطراب الهوية الجنسية ليس بإشكالية بشرية جديدة كذلك، والمعاناة الناتجة عنها هي تحديداً ما قادت إلى تكنولوجيا عمليات العبور الطبية التي أنقذت الكثير من البشر من حالات الاضطراب الجسدية والنفسية وتعددية الأجهزة التناسلية والاختلالات الهرمونية التي يولدون بها. كما أن الحالات البشرية للمثلية الجنسية هي كذلك قديمة قدم البشرية بحد ذاتها، وهي قائمة في كل الكائنات الحية، الحيوانات منها بل والنباتات كذلك، وهي محط أنظار العلم لاكتشاف الجين المسؤول عن هذا التوجه الجنسي أو للطبيعة الهرمونية في الجسد التي جعلت البعض من البشر يتجه هذا الاتجاه أو ذاك.
وهكذا فإن ثقافة المرونة وحرية اختيار الهوية وحرية التعبير عن الذات تمثل صورة من صور التطور البشري سواء الحقوقي من حيث ضمان المزيد من الحريات، أو العلمي من حيث اكتشاف المزيد من الحقائق عن الجنس والجسد والنفس البشريين، وسيكون السبق دائماً لليسار، التوجه الذي يمثل الحريات والحقوق والعدالة الاجتماعية حتى في تطرفاته التي صنعت تحديات «مثالية» مهمة للعالم وللبشرية. إلا أنه وفي قفزة «حقوقية» متسعة اليوم، تنامت بعض الأفكار بشكل غير مسبوق وانقلبت المرونة المحمودة ثائرة على العلوم التي قدمتها، وانفصلت عن كل القواعد التي طالما اعتبرتها البشرية منطقية، وثارت على كل الأطر التنظيمية، والتي منها سن الإنسان التي تؤهله للتعرف على نفسه وهويته الجنسية، لتشمل هذه القفزة الأطفال كذلك، موفرة لهم فرصة تبدو غير ناضجة مطلقاً لتحديد جنسهم أو هويتهم الجندرية. اليوم يضمن هذا الحراك لهؤلاء الأطفال حق تقرير المرور بعملية تغيير هورمونية أو حتى جراحية للانتقال من جنس إلى جنس دون أي سلطة للأبوين على ذلك. أكثر من ذلك، يرى أصحاب هذا التوجه أن تعريض الأطفال لفحوى غير تقليدي لأعمارهم، كاعتياد مشاهدة الجسد العاري أو استعراض العملية الجنسية في كتب الأطفال أو استقبال المشاهد الاستعراضية «البالغة» في المدارس… إنما هي عملية تثقيفية تزرع ثقافة القبول عند الطفل وتوائمه ونزعاته الجنسية، وذلك امتداداً للفكر البوهيمي الذي تبناه العديدون بداية من ستينيات القرن الماضي. وهكذا زاغت النظرة الحقوقية واختلطت المفاهيم وأصبح من العسير جداً على المنتمين للتيار اليساري أو الحقوقي أو حتى على الأسر التي تعد نفسها متفتحة ومنفتحة على الفكر التحرري الجديد أن تسائل هذا التيار القوي القادم، خوفاً من تبعات المساءلة ومن الخسائر المترتبة على نقد هكذا تيار ذي شعبية إعلامية. هنا نتساءل سواء من مواقعنا كحقوقيين، كمنتمين لفكر اليسار، أو كآباء وأمهات ندعي التفتح والتحرر من المفاهيم التقليدية، أين نحن من الحراك العالمي الحالي؟ شئنا أم أبينا، لا بد أن نكون جزءاً من هذا الحوار، ولا بد أن نتفهم دوافعه وتبعاته، فأين ستذهب بنا الموجة الحالية، ولماذا أصبح من المخيف مساءلتها؟ هذا موضوع المقال المقبل.