تحميل إغلاق

حين تقدم أحدهم لخطبة ابنة إحدى القريبات، أخبرتنا أن أحد أهم الأسئلة التي دارت الأسرة بها بين معارف المُتَقَدِّم كانت حول ما إذا كان ملتزماً بالصلاة. تعجبت من أولوية هذا السؤال بالنسبة لها، فعلى الرغم من تفهمي لرغبة الأسرة المتدينة في نسب رجل متدين كذلك، إلا أن السؤال حول إقامة الصلاة موجهاً لمعارف «العريس» لن يدل أبداً على ورعه أو تدينه وبالتأكيد ليس على أخلاقياته. بكل تأكيد، يمكن لهذا الشاب أن يصلي في العلن ليوثق صورته التدينية، أو يمكن أن يكون مصلياً فقط في المناسبات الجمعية كصلاة الجمعة أو صلاة العيد، ويمكن جداً أن يكون ملتزماً بكل الصلوات في كل مواقيتها لكنه ليس متديناً بالمعنى الشائع، وبالتأكيد يمكن أن يكون ملتزماً بالصلاة وفي كل مواقيتها ولكنه بلا أخلاق، مطلقاً.
لا نفرق كثيراً بين العبادات والأخلاقيات، رابطين بينها تماماً وكأن أحدهم دلالة على الآخر. شخصياً، كثيراً ما كنت أعتقد بهذا الخلط الذهني السلوكي الذي برز، أي اعتقادي هذا، حين كنت أتساءل أن كيف يمكن لهذا الملتزم بصلاته وصيامه أن يُعمل الوساطة ليأخذ حق غيره، أو كيف يمكن لهذه المحجبة الورعة أن تزور شهادة طبية تعفيها من العمل أو أن تدعي إعاقة لتحصل على مساعدة. مما لا شك فيه، يأتي هذه السلوكيات كل أصناف البشر، المصلين منهم وغير المصلين، والمحجبات منهن وغير المحجبات، إلا أن المفارقة قوية حين يجتمع المظهر الديني مع السلوك المنحرف، والتناقض بيِّن حين يترافق مظهر له دلالة أخلاقية مع فعل مؤذ. كثيراً ما كنت أفكر، ألا يرتعب مرتكب هذه السلوكيات، إذا ما كان مؤمناً برقابة إله عادل وبنظام الثواب والعقاب المتمثل في الجنة والنار، من أن يطاله صنف من صنوف العذاب المرعبة الموصوفة للعصاة؟ كيف يمكنه، وهو المتأكد من العذاب الأبدي القادم، أن يقدم على خطيئة؟ هل لدى مثل هؤلاء نظام خاص لتبرير الخطايا تسهيلاً لارتكابها؟
هذه التساؤلات وهذا الربط تمثل سذاجة فكرية وفلسفية؛ أولاً، من الإجحاف بحق أي إنسان تصور أن توجهه الأيديولوجي يفترض فيه المثالية تجاه مفاهيم ومبادئ هذا التوجه. كلنا لنا توجهات أيديولوجية فكرية وأخلاقية معينة وكلنا نكسرها بين الحين والآخر. وثانياً، من المؤكد أن المظهر لا يدل على المخبر، والتدين لا يدل على الأخلاق، حيث يمكن للإنسان أن يكون مستوفياً صنوف العبادات كافة، لكنه لا ينطوي على قشرة رقيقة من الأخلاقيات، ذلك أن العبادات في مبدئها ليست محفزات للأخلاق، إنما هي وسائل تواصل بين الإنسان وربه، يثبت بها تذكر الخالق واستمرارية الاتصال به. بالتأكيد، هناك عبادات لها صبغة أخلاقية كالزكاة، إلا أن محفزات هذه العبادات هي إرضاء الخالق لا إتيان عمل إنساني أخلاقي لوجه هذا العمل وإيماناً به وإيثاراً للشخص المنتفع. وعليه، يمكن للإنسان أن يكون حسن العبادة مخلصها، غير أنه سيئ الأخلاق بغيض العشرة، عنيف، سليط اللسان، بخيل، أو مؤذ. ومن منا لا يعرف «متدين» ما مصطبغ بهذه الصفات تماماً كما يصطبغ بها غير متدين أو غير مؤمن ما؟
في الواقع، تبين بعض الدراسات أن البشر في الأغلب يفصلون بين العبادة والسلوك حتى يستطيعوا التعايش مع معطيات الحياة والقفز على عوائقها دون كثير من التكلفة النفسية والحياتية. يفصل معظم البشر في وعيهم بين سلوكيات الحياة اليومية والتصرفات العبادية. فالصلاة، على سبيل المثال، تمثل عبادة واضحة في أذهان معظم المؤمنين، يُعاقب تاركها لربما في الدنيا والآخرة، في حين أن التصويت لشخص فاسد هو أمر دنيوي لا علاقة له بالتدين، لذا فإن ارتكابه لا يستدعي العقوبة، وكأن الخالق سيراقب صلاة الإنسان ولكنه لن يراقب تصويته على ورقة الانتخاب. هذا الفصل السيكولوجي موجود عند معظم البشر وهو يحتاج، على ما يبدو، إلى درجة أعمق وأكبر من الاستيعاب والغوص في الذات لإدراك استشكاليته وتناقضه وانتفاعيته البغيضة.
لا بأس أن تسألي عن ممارسات خطيب ابنتكم الدينية، أخبرت القريبة بصوت حاولت جعله لطيفاً قدر الإمكان، إلا أن السؤال الأهم سيكون عن سلوكياته: هل هو أمين ومواظب في عمله؟ هل هو دمث المعشر بين أسرته وأصدقائه؟ هل في حياته أي علامات أو مواقف عنف يجب الانتباه إليها؟ بل إن التحقق من مواقفه السياسية قد يعطي معلومات أكثر عن الشخصية التي سيكونها هذا الرجل في بيته وعن التأكد من ممارسته لعباداته. إذا استتب الأمر لمثل هذه الأسئلة يمكن إلحاقها بأسئلة العبادات والتي لن يكون من الممكن أبداً التيقن من حقيقية النوايا في أدائها مهما سألتم واستفسرتم. ما إن أنهيت جملتي، تبدى الامتعاض واضحاً مدللاً على أن النصيحة ما كانت «مبلوعة،» ومتى كانت؟ فاعتذرت وأقررت بأنني أرى من زاوية تختلف عن زاويتها، وتمنيت صادقة مخلصة لابنتها كل السعادة والأمان، وأسررت داعية في صدري أن تكون صلاة هذا الشاب دلالة على حكمته ورحمته بهذه القادمة إلى حياته.

اترك تعليقاً