النقد المحمود.. المكروه!
لا يمكنك أن تعمل في قضايا حقوق الإنسان وأن تكون حكوميَّ الهوى في وقت واحد؛ فالمعارضة كمنهجية اجتماعية/سياسية إنما هي مغروسة في أعماق قلوبنا وسلوكياتنا الحياتية واختياراتنا السياسية بوصفنا ناشطين إنسانيين. وعلى كراهة هذا النوع من الكتابة، لا أجد مفرا من أن أتخذ منحى شخصيا بعض الشيء يتجلي في قولي إنني شاركتُ منذ البداية في مسيرة «كرامة وطن» وفي الاعتصامات التالية، وكنت متحدثةً في إحدى ندواتها، حيث كنت أعاني صراعاً داخلياً بين إيماني التام بأخلاقية الموقف المعارض (آنذاك وإلى اليوم)، وبين شخوص وتصرفات وسلوكيات وكلمات بعضٍ ممن يقود الحَراك. في بدايات الحراك شكَّل بعض الأصدقاء – وأنا معهم – حركة صغيرة أسميناها «أمثل نفسي»، في إشارة إلى أننا معارضة مختلفة نوعياً عن تلك التي تقود الشارع، وكانت حركةَ يومٍ واحد، سرعان ما غمرتها موجةُ المعارضة الضخمة التي لم تُبقِ ولم تذرْ.
وكما لم أتوقف عن نقد الحكومة، لم أتوقف عن نقد المعارضة، وفعلتُ ذلك حتى في أحلك ظروفها، وراجعتني نفسي أخلاقياً في نقدي للمعارضة في ظروفها العصيبة، لكني لم أستطع أن أتوقف، ولا أظنني سأفعل يوما ما. فالمعارضة ليست أصدقاء أختلف معهم يجب أن تأخذني بهم الرحمة مُراعاةً للظروف، بل هي حركة سياسية قد تأخذنا قراراتها إلى منطقة حالكة، خصوصاً في ظل حكومات متعاقبة لم ترَ البلاد من قبل مثيلا للفساد الذي تفاقم في عهودها. إذا لم ينصلح حال المعارضة، وفي ظل استمرار الحكومة في تطبيق مبدئها البراغماتي: «ليست الحقيقة هي ما يُهم، بل الانتصار»، فنحن – مع الأسف – نُهرول في جديةٍ عجيبة لدخول نفقٍ مظلم وعميق.
ولا أكتُمكم الحقَّ أنني كنت منذ البداية في حالة صراع مع الموقف، فالقائمون على المعارضة ساهموا في تمرير بعض أسوأ القوانين التي مرت على البلد، ومواقفهم من الحريات والحقوق الإنسانية مواقف لا تدعو إلى الفخر مطلقاً، بعضهم خرج من حالة وئام سابقة كريهة مع الحكومة، وبعضهم كان ولا يزال مشهوراً بوساطاته التي ملأت البلد والتي أسست لجانب من جوانب الفساد المريرة في مجتمعنا. ولكن الموقف لم يُقدم أي خيارات مثالية، فلم يكن هناك مهرب من اختيار أفضل الأسوأ. ومن وقتها ونحن جميعاً نواصل الخوض في اختيارات أفضل الأسوأ من دون أي بارقة أمل!!
أخيراً اتخذ القانون والقضاء والمنظومة المدنية برُمتها مقاعد خلفية في المشهد، كُسرت القوانين وانتُهك الدستور، وتدهور الحوار وساءت اللغة وتطايرت الشتائم وتشابكت الأيدي واختفى وجه الديموقراطية الجميل الذي طالما قدمته الكويت حتى في أحلك ظروفها. تلك طبخة حكومية بامتياز، ولم تفعل المعارضة سوى أن زودتها بالبهارات، فهي تُقدم ردات فعل سيئة لأفعال سيئة، وهي ربما لا تُلام عليها في البداية، لكنها يجب أن تلام عليها اليوم، وتلامَ أكثر على استمرارها في تقديمها رغم انعدام فعاليتها وسوء منقلبها وبشاعة الصورة التي تقدمها.
ولأننا تعودنا ألا نتعلم من ماضينا، نظل نسمح للحكومة بأن تجرنا إلى مناطق ردود الأفعال الانفعالية غير المجدية، لتبدو هي في مظهر من يحافظ على القانون، في حين يبدو الطرف الآخر انفعالياً ثائراً على القانون. لقد أبطلت المحكمة الدستورية عضوية النائب الدكتور بدر الداهوم، وهو حكم بادر إلى تحليله وتبريره وفلسفته خبراء من كلا الجانبين، ولأن فكرة الحياد القضائي التام هي فكرة شبه أسطورية في كل أرجاء العالم، استناداً إلى أن من يقومون على القضاء أصلاً هم بشر، سيبقون يرتكبون الأخطاء سهواً أو عمداً بحكم بشريتهم، فسيبقى النقاش حول الحُكم وتمحيصه وفلسفته أمراً مشروعاً، ولكن ماذا عن التنفيذ؟ أي خلاف أو اختلاف حول أي حكم قضائي له طرق طعن مشروعة ومتاحة في الدولة المدنية، وهي طرق – مهما شُذِّبت – لا تضمن العدل المطلق، فالعدل المطلق كما الحياد التام كما العنقاء، كلها من ضروب آمال الإنسان العصية على التحقُّق وخيالاته المستحيلة، وفي دولنا التي لا تزال تحبو في عالم المدنية تتضاعف وتتكاثف هذه الاستحالة. والآن، وقد صدر الحكم نجد أنفسنا في مفترق طريقين: فإما المضيُّ في طريق القضاء مهما طال وتفرع وتعقَّد، وإما المضي في طريق الثورة على القضاء والمغامرة باستقرار المجتمع والتشكيك في إحدى أهم دعائم توازنه وثباته واستمراره، ولا جدال أن الخيار حرج، وسيحتاج إلى ميزان دقيق وإيثاري وبعيد النظر.
لو أن الدكتور الداهوم استغل الموقف بشكل صحيح، لتحوَّل اليوم بطلاً شعبياً تتجاوب معه أطياف المجتمع المختلفة. لو أنه انصاع للحكم، على رغم ما له من رأيٍ حياله، انصياعاً مصحوباً بالشرح القانوني الوافي لهذا الحكم ولتبعاته وآثاره، ثم لو أنه تحول إلى الشارع ليقوده في حَراك شعبي إصلاحي، مضحياً بفرصته في المنصب النيابي، لأضحى اليوم بطلاً قومياً، ولالتف الناس حوله مدفوعين بافتتان وعطش إلى قائد أخلاقي آثرهم على مصلحته ومركزه. لو أن الدكتور استمر في الدعوة إلى مقاطعة جلسة القسَم، وهي دعوة لا يوجد ما يماثلها استحقاقاً في المرحلة الحالية، دفعاً بأسباب تتجاوز عضوية الداهوم إلى عضوية الشعب بأكمله في دولة حيَّدت هذا الشعب وتجاهلته وداست في بطن قوانينه ودستوره، لكان هو اليوم قائدَ حَراك لا خلاف عليه. لو أن النواب المقاطعين ما تشككوا بعضهم في نوايا البعض الآخر، وما خافوا من صراخ بعض ناخبيهم المتحمسين بلا فَهم، لوقفوا بصلابة عند باب قاعة عبدالله السالم، ولاندفعوا في مجموعة قوية منظمة داخلين الجلسة مباشرةً بعد انتهاء القسَم، ولأنقذونا من خراب كبير وقع في هذه الجلسة، ولوفروا علينا تصويتات تتخذ زياً دستورياً من الخارج بينما أمعاؤها لا تعرف ديموقراطية ولا برلمانية ولا دستورية، والتي كان أحدُها هو التصويت على تأجيل الاستجوابات، وكذلك «أي استجواب يقدَّم ضد رئيس الوزراء حتى دور الانعقاد المقبل» (جريدة الجريدة)، وهي الجملة التي قلبت الموضوع كله كوميديا سوداء مريرة. لكن أحداً منهم لم يتحرك دخولاً للجلسة على رغم أنهم أعلم من غيرهم بتكتيكات السيد مرزوق الغانم السياسية. فأي شخص تعامل مع السيد الغانم من قريب أو بعيد أو راقب أداءه في فترة من الفترات، سيسهُل عليه تماماً التنبؤ بتكتيكاته التي تجلت في جلسة القسَم. لا يُلدغ مؤمن من جُحرٍ مرتين، وأنتم – الله يهداكم – ما بقي موقع في أجسادكم لم يُلدَغ ويتورم ويتشوه… وبلا فائدة.
وماذا لو أن الدكتور الداهوم رفع قضية بعدم دستورية قانون المساس رداً على الحكم القضائي الذي صدر في حقه؟ إضافة إلى تحوله بطلاً قومياً، لا شك أن التاريخ كان سيسجله كأيقونة نادرة لإبطاله أحدَ أسوأ القوانين التي مرت في تاريخ الكويت، لكنه لم يفعل، وما كان ليفعل طبعاً، فالحسبة لن تلتئم. هذه قوانين من صنيعة تياره، لن يستطيع مخالفتَها، ومن المُحرج أصلاً إبطالُها بعد الصراخ بأهميتها. في الواقع، بعض أهم رموز المعارضة هم من أيدوا ومرروا القوانين التي حبستهم وهجَّرتهم و«بهدلتهم» ونحن معهم اليوم.
لكن الدكتور الداهوم لم يترك لهم العضوية بعد أن سمموها بحركات الفانتازيا السياسية. لم يتجه إلى الشارع ليقوده في حَراكٍ «معارضيٍّ» قوي منظم. لم يقدم صورة المناضل المُضحِّي الذي يُعلي احترامَ القضاء ومصلحة المعارضة فوق حقه. لا، هو أصر وأرغى وأزبد وكأن موقف المقاطعة كله منصب على عضويته، حتى أنه دفع بالبعض إلى إصدار بيان دفاعي تبريري يزعم أن هناك زوايا أخرى للمقاطعة لا تنحصر في عضويته، وهو بيان لم يؤتِ أُكُلَه بعد أن صُبغت المقاطعة كلها بصبغة عضوية الدكتور. ليت الدكتور غير مسار المقاطعة من ذاك المنصب على قضية محدودة كعضويته إلى آخر يرتكز على قضية إنسانية أخلاقية كالانتحارات المتكررة في أوساط البدون والتي وقع آخرها في خضم معركة عضويته، كان سيُقدم صورة إنسانية شاملة كبيرة لحَراك المعارضة، صورة تقويها وتوسع رقعة مسانديها. عوضاً عن ذلك، هو استمر في تصدير عضويته كموضوع رئيسي، منشغلاً بالرد على أحمد الشحومي واصفاً إياه بالرخمة وأنه ستأتيه «علوم الرجاجيل»، ليرد عليه الشحومي: «إلى هبنقة»، ثم ليضع المويزري الكرزةَ أعلى الكريمة حين توعد السيد الغانم بالسحق و«التلتلة في الشوارع».
نعم، نعرف أن هذا الحوار ليس ديدنَ كل المعارضة، إلا أنه ديدن كثيرٍ من رموزها، وهو منتشر بينها بما يكفي ليحولها إلى ظاهرة. ونعم، نعرف أنه البُرود الحكومي الحارق والفساد الصارخ والتجاهل المُهين الذي أشعل النفوس بهذه الطريقة، لكن لنا على هذا الطريق سنوات عدة، فإلى أين ذهبنا؟ أبناء المعارضة مُهجَّرون، نحن في الداخل منقسمون، نواب المعارضة أنفسهم، المجموعة ذاتها التي كانت تقف خارج مجلس الأمة، فاقدون الثقة بعضهم بالبعض الآخر، العضويات تتساقط، القوانين المُريعة تُمرَّر، هزائم بعد هزائم بعد هزائم. فإلى متى نظل نبرر رعونة تصرفات وأسلوب المعارضة بسوء الأداء الحكومي ومفاسده؟ ماذا جنينا من كل ذلك؟
الجانب الحكومي طبعاً، إضافة إلى البرود والفساد والتجاهل والاستهزاء بالشعب بأكمله، ما قصر في الأسلوب كذلك. وما خطاب السيد مرزوق الغانم في الجلسات وخارجها وخطاب أنصاره إلا عينة مما يدور في حيزهم. والواقع أنني لا يعنيني الطرف الحكومي كثيراً، فهذا أوصد يأسُنا منه كل الأبواب أمام أي بارقة أمل إصلاحية من داخله. ما يعنيني هو حَراك المعارضة التي – على رغم كل ما حدث ويحدث – لا يزال لديَّ أمل في تحركاتها الآتية بقيادة شبابها، هؤلاء الذين سيأخذوننا إلى طريق مختلف: مصالحة وطنية، مؤتمر شعبي عام، اتفاق وطني واسع النطاق، التأكيد على المدنية والدستورية والقانونية بوصفها ركائز للدولة، ترْك الخلافات الجانبية كلها والكراهيات والشكوك، بناء التعاون الحقيقي المنشود لإعادة المهجَّرين من الخارج ولإصلاح الداخل ولإعادة بيت الأمة إلى مظلة إرادة الأمة، تغليب المصلحة العامة على المصالح والمواقف والجروحات الشخصية، احترام الدستور وقوانين الدولة والقضاء وتفعيل الإصلاح المرحلي لكل هذه المؤسسات تدريجياً ومنطقياً ومن دون إفقاد الناس الثقةَ بها. ويا حبذا يعني، يا حبذا، مو وايد ضروري، بس يا حبذا، لو تُحسِّنون الخطاب وتخفضون منسوبَ الشتائم عند الحدود الدنيا، وتتكلمون بلغة القانون ومنهج العقل لا بلغة هوشات الشباب الصغار، لكي تُعلموا الصف الثاني كيف يختلفون وكيف يعملون وكيف – إذا استلزم الأمر – يضحُّون من دون أن يتنازلوا عن الكرامة، ودون أن يهبطوا في الحوار والسلوك. ساعتها، فقط ساعتها، نكون قد بدأنا نخطو الخطوة الأولى على الطريق الصحيح.
نحن مقبلون على تحديات خطرة لم يسبق لنا أن واجهنا مثلها من قبل، بداية من الأزمة الاقتصادية المطلة برأسها، ومروراً بالأزمات البيئية، العملية، الحياتية، السياسية والديموغرافية الآخذة في التشكل. نحتاج إلى وحدة الصف، جدية خارقة في العمل، درجة غير مسبوقة من الإيثار والتخلي عن المصالح الضيقة، ومستوى غيرِ مسبوق من العمل السياسي الرصين. حالياً، كل طرف يدافع عن نفسه ويبرر أخطاءه وزلاته ليس بشرف وجودة أدائه ولكن برداءة أداء نِده. وهذه فلسفة يجب أن تتغير فوراً إذا كنا نأمل الوصول حقاً إلى أفضل الأفضل، لا أفضل الأسوأ… والفارق بينهما شاسع ومخيف.
مصدر الصورة هو صحيفة الشرق الأوسط aawsat.com