تحميل إغلاق

بالحسنى

بالحسنى

هل ازدادت القسوة وتفاقمت غلظة اللسان، أم هي وسائل التواصل التي توصل لنا كل مؤذ كان محجوباً عنا سابقاً بغياب الشاشات الزجاجية التي أضحت نوافذ على العالم ككل؟ وهل يحتاج الإنسان لأن يكون غليظ اللسان لإيصال الفكرة أو حماية المبدأ؟
يتراشق نواب البرلمان الكلمات المغلظة عندنا في الكويت هذه الأيام بطريقة تنشف القلب وتبخر الأمل وتجعل الإنسان منا تائهاً لا يجد جانب حق سياسي يستمسك به. الكلمات هي موصل المبادئ، والأسلوب هو واجهة الأشخاص والأفكار، فإذا ساءا، أي الكلمات والأسلوب، ساءت المبادئ وأصحابها وأصبحت منفرة كريهة مهما كانت صحتها وأحقية قائليها. إن الأساليب الكلامية والسلوكيات العملية لرموز العمل السياسي لا بد وأن تنعكس على الشارع العام، الذي سيتأثر بها وسيقلدها لتتحول إلى طابع سلوكي منتشر. فإذا تحولت جماعة سياسية إلى جماعة قاسية، سليطة اللسان، عنيفة التوجه، مهما كان لها من أسباب لهذا التحول، سينعكس ذلك على مريديها، الذين سيتلونون بلونها، وسيعكسون صورة سيئة بائسة لها، ثم سينعكس ذلك على أعدائها الذين سيردون لها أسلوبها وسلوكها، وهكذا سيتحول الجو العام إلى جو عدائي مشحون. لطالما أخفق حق كبير بسبب الأسلوب الصغير في التعبير عنه.
وكذا هو حال المتدينين الذين يعتقدون أن الغلظة هي وسيلة حماية للدين، وأن الصراخ والشتم هما سلاحان واقيان ضد «المساس» به. ولطالما رُسمت هذه الصورة ثم طبعت في الأذهان عن رجل الدين المكفهر، عبوس الملامح، غليظ الخطاب، الذي تصعب عشرته وتقفر حنايا الروح من أي دفء أو ونس في صحبته. لا يسيء أحد للدين كما يسيء هذا النموذج من البشر، خصوصاً أنهم وعلى مر الأزمان قد رسخوا هذه الصورة الغليظة للإنسان المسلم، وكأنه أشبه «بكفار الجاهلية» كما يبدون في المسلسلات والأفلام الساذجة، شكلاً وأسلوباً. لا تغيب عني ذكرى هذه القريبة التي أفضت ذات زمن، مبررة قطيعتها وجفاء تعاملها، بأن القسوة والغلظة والجفاء هم واجبها السلوكي تجاه من يفشلون في الالتزام بالدين. كم تأسيت لها، أي حمل تحمله على كاهلها؟ أي قسوة تجبر روحها ونفسها عليها؟
وعلى الرغم من ارتفاع صوته وغضباته المتلاحقة وقسوته على بعض متصليه أحياناً، إلا أنني مغرمة بنموذج د. مبروك عطية كرجل دين محافظ تقليدي مثالي. الدكتور عطية هو ابن المجتمع المصري من أعرق عروقه، يعرف ديناميكياته المعقدة وتشابكاته الطريفة، وهو حين يقدم نصح، لا يفوته أبداً الجانب الاجتماعي الذي لا يعزله عن الجانب الديني، متفادياً إيقاع السائلين في غربة عن دينهم. هو في الواقع يخاطبهم من حيث موقعهم الاجتماعي، ويجد للدين مساحة مريحة في داخل حيواتهم تلك.
ورغم أن للدكتور آراء ذكورية نابعة من القراءات التقليدية للدين، إلا أنه يحاول دوماً التخفيف من وقعها والإشارة إلى ما قد يكون عمقاً مفاهيمياً غائباً عن فهم الناس لها. وفي الكثير من الأحايين، تصدر عنه ملحوظة تدل على أنه قد يتصارع هو بحد ذاته مع بعض هذه الأفكار، فيقول ما معناه: أن لو كان الأمر لي لفعلت غير ذلك، ولكن الأمر الديني له تبريراته وله غاياته التي قد لا نفهمها. في مثل هذه الملاحظات السريعة، يضمن الدكتور حق الإنسان في أن يفكر ويتساءل حول القراءة الدينية أحياناً، وهو يشير إلى أنه حتى أكثر الناس تعمقاً ودراسة للدين قد يجد صراعاً في نفسه مع أوامر دينه، إلا أنه بدافع من الإيمان والتسليم، يذعن راضياً سعيداً بهذه التضحية من أجل الدين. مثل هذا التوجه الطيب الرقيق مع النفس، الذي فيه فسحة للتفكر والاختلاف، له أطيب الأثر في خلق إنسان مؤمن متوائم مع نفسه مستريح في رحاب أيديولوجيته الدينية.
والدكتور عطية، رغم انفعالاته الطريفة، دائم النصح للناس بالهَون والتعاطف وحسن الخلق ولين التخاطب، وهو يؤكد باستمرار أن الدين ليس عبادات بقدر ما هو معاملات، فالعبادات تحصيل حاصل، واجبة على كل مسلم، كما يؤكد الدكتور، إنما الاختبار الحقيقي فيما يجعلك طيباً مؤمناً هو المعاملات. أن تصلي، يقول الدكتور، ذلك لا يجعلك إنساناً أخلاقياً، أن تحسن التعامل ذلك ما يرفع مستواك الأخلاقي.
وهو رغم آرائه الثابتة تجاه تعدد الزوجات وأحقية الرجل في إتيان ذلك دون حتى إعلام الزوجة، إلا أنه دوماً ما يرفق الموقف بتوصيف سلبي فكاهي مضحك تجاه المعدد، هو «عايز يتنيل على عينه بكيفه» في إشارة نقدية للتصرف رغم حلاليته الدينية. فليس كل ما هو حلال فرضاً، يقول الدكتور، هو ممكن لكنه غير مفروض، وفي ذلك الكثير من «عدم التشجيع» من الدكتور على هذا التعديد.
وفي جزئية غاية في الحنو والتفاعل الإنساني، يؤكد الدكتور أن الإنسان وهو حي عليه أن يعدل بين الأولاد والبنات في العطايا، بل أن يكرم البنت أكثر من الولد، وأن يحنو عليها ويزيدها عن غيرها، أما بعد وفاته فالأمر لله في تقسيم الورث. ففي حياتك، يؤكد الدكتور، تعطي البنات كما الأولاد تماماً، إشارة إلى فصل الدكتور لمفهوم الميراث الشرعي عن مفهوم العطاء الاجتماعي. هذا المنظور، الذي بالتأكيد لا أتفق معه والذي أرى له مخارج عدة من خلال قراءات دينية متطورة، هو منظور شفيق رحيم، يراعي أن هناك تفرقة دينية قد تكون مؤلمة يحاول الدكتور بتوجيهاته الاجتماعية التخفيف من وقعها.
ورغم استشكالي الفكري مع المؤسسة التي خرج منها الدكتور عطية ومع منظوره الذي ينظر به للأيديولوجية الدينية، إلا أن أسلوبه، ولين تعابيره، وكوميدية تعاطيه، وشعرية قوله، وحنو تفسيراته للآيات والأحاديث، ورقة فهمه للفكرة الدينية، كل ذلك حببني الاستماع إليه، وأوقفني كثيراً عند نصائحه التي دوماً ما تبدو مرنة قابلة للتنفيذ، ذات معنى متوائم وطبيعة المجتمع الذي يعيش فيه. لقد أسبغ الدكتور عطية الكثير من التحضر والتقدمية والسلاسة على القراءات الدينية التقليدية، جاعلاً منها قابلة جداً للتطبيق المرن المريح في المجتمعات المتدينة المحافظة.
دوماً ما يخلق الأسلوب الجميل نقاط التقاء، في حين يقتل الجفاء والعنف والغلظة أي مودة اتفاق، حتى لتجدن نفسك كارهاً لأفكارك التي تؤمن بها في حد ذاتها والتي يعبر عنها الآخرون بغلظة وغوغائية. لا أهم ولا أجمل ولا أوقع من بوابة الرفق لكي تدخل الفكرة منها وتستقر وتتربع في نفس الآخرين. فلا تسمحوا للشاشات الزجاجية أن تنسيكم الرفق واللين، لا تجعلوها تنسيكم أن على الطرف الآخر إنساناً، له مشاعر وقلب وروح.

اترك تعليقاً