النسوية: حقوق وحرية
“أي نسوية هذه التي تحكين فيها وعنها طوال الوقت ماما؟” تقلب الأولى عينيها وتلوي الأخرى بوزها وهما تعايراني بنسويتي التي يعتقدانها تطرى وتضعف أمام والدهما.
هكذا اخترت أنا، أمومة صعبة تستهدف خلق أشخاص أحرار، يستطيعون حسم آرائهم، إعلانها، والدفاع عنها بكل وأي ثمن. يتمسك أبنائي بآرائهم، ويستمتعون بالدفاع عنها خصوصاً حين يكون الند أنا وأبيهم بالطبع، فما ألذ الانتصار على الآباء والأمهات، وما أطيب أن ترى هؤلاء الصغار وقد أصبحوا أشخاصا مكتملين، لهم آراء، على سذاجتها أحياناً، يذودون عنها بطلاقة وشجاعة وقوة شخصية.
كم أنا فخورة بهذه الإرادات المكتملة والشخصيات القوية رغم ثقل الصرة التي تأتي فيها هذه المزايا العظيمة.
وكما هو ديدن القدر الساخر، دوماً ما ينقلب السحر على الساحر. فها هما ابنتاي اليوم تعايرانني “بلين” نسويتي، و”بطراوة” سلوكي حين يكون والدهما هو لب الموضوع، في حين يبدو أخاهما، رغم نقده، أقل غمزاً ولمزاً.
“هه، نسوية وتحتاجين الإذن يا ماما؟” تسخر الصغيرتان حين أتراجع عن قص شعري الذي يفضله زوجي طويلاً طبيعياً، “هل عدنا للقرن الثامن عشر؟” تسخر الصغرى حين تراني أحمل ماءاً دافئاً أريح به قدمي والدها المتعبتين، “كأنك قطة صغيرة مسكينة تلاحقين بابا حول البيت” تزوم الكبرى حين أستبق أنا وجبة العشاء بقطعة خبز ساخنة خاصة أدلل بها والدهما قبل جلوسنا جميعاً على طاولة الطعام.
أحب أن أرتب دولاب زوجي بنفسي، أن أتمهل في إراحة أكمام دشاديشه المعلقة في دولابه فوق بعضها البعض بتدرج الألوان، حتى تبتهج نفسه من ترتيبها ويسهل أمره في انتقاء اللون الذي يريد.
تنعقد تكشيرتي حين يبدأ الأولاد في الأكل و”بابا” لم يجلس بعد، أحبه أن يكون أول من يرفع غطاء الطبق ليرى الشكل الأولي لطبختي قبل أن تضرب فيها الملاعق فتخرب وجهها الذي زينته خصيصاً لأجله، فيبتسم لي هذه الابتسامة التي تذيب القلب، ويتمتم شيئا غير مسموع لا يفقهه سوى قلبي، فأتظاهر برفع خصلة شعري في حين أنني أخبئ لحظة حياء تمر على قسمات وجهي، أجلس على كرسيي لأهب واقفة من جديد ساحبة أفضل قطعة ستيك له بنفسي، لتتغامز الشياطين الثلاثة الجالسة على طاولتنا، وليرتفع صوت الشيطانة الصغيرة عن عمد مدمدماً “يا لها من نسوية عظيمة.”
نضحك أنا وهو، نتجاهل الغمزات واللمزات والسخريات. ماذا يعرف هؤلاء الصغار عن النسوية الحقيقية؟ ماذا يفقهون عن الصراع القاسي اليومي؟ ماذا يدركون عن الكيفية التي نقود بها أنا وأباهم هذه الحياة المليئة بالتحديات؟ هل شهدوا والدهم وهو يستمع في تجمعات الديوانيات الرجالية أحياناً لنقد قاس يكاد يكون سليطا تجاه زوجته، فيبتسم ثم يفتخر بزوجته محل الحوار؟ هل سمعوا أباهم حين رد على متصل من الأهل يعزره على “تحرر” زوجته، أن “نحن موقفنا وآراءنا ثابتة لا نحيد عنها” فملأ قلب أمهم بطمأنينة هذه الإشارة الشمولية وبدفء هذا المصير المتوحد؟ هل عرفوا أن أمهم ذهبت ذات يوم تعتذر لأبيهم عن كلمة مهينة تلقاها في التلفون بسبب عملها ونشاطها العام، فنظر هو في وجهها لائماً “أحقاً تعتذرين بسبب كلام جاهل؟ هل سنقضي الوقت نتحدث في إنسان كهذا؟” أبعد كل ذلك سيمس طشت ماء بحقوقية ونسوية حياتنا؟
يغيب عن الكثيرين أن النسوية، رغم تعدد تعريفاتها وتشعب مباحثها وتفرع تاريخها، هي في الحقيقة تنصب في مصبين اثنين: الحقوق الإنسانية والإرادة الحرة. فطالما تحقق للإنسان هذين الشرطين فهو أو هي يعيشان حياة نسوية مبدئية، وطالما آمن الإنسان بهذين المصبين بلا قيد أو شرط أو تمييز أو عنصرية أو تحفظ. فهو أو هي شخصان نسويان حقيقيين بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وخلال الأيام الماضية استمعت لأكثر من حوار على الكلوب هاوس حول النسوية، سيدات غاضبات ثائرات، وفر لهن هذا التطبيق مساحة ممتازة للتعبير، فاستغللنها أحياناً ولربما استحقاقاً للتنفيس.
أتفهم بالطبع غضب المتحدثات وأستشعر مصدره، فكلنا نساء الشرق الأوسط، سواءاً عن تجربة شخصية أو شهود على تجارب أخريات من حولنا، قد عرفنا معنى الحيوات المهدرة والحقوق المنتهكة والكرامات المتوجعة.
إلا أن هذه التجارب القاسية والمعاناة الحارقة لا يفترض أن تحيد بنا عن النضال الحقيقي الأخلاقي، وهو نضال لا يفترض أن يستعدي أو يشتم الرجال، فالرجال بشر يشملهم وحقوقهم الحراك النسوي الذي لا يفترض أن يفرق بين البشر في حفظ الحقوق والكرامات.
في أحد الحوارات على هذا التطبيق، رفضت المشاركات رفضاً تاماً إمكانية أن يكون الرجل نسويا، ضاربين مثلاً غريباً في أن الإنسان الأبيض لا يمكن أن يصبح أسود وبالتالي لا يمكن أن يكون مناضلاً ضد العبودية، وكذا هو حال الرجل الذي لا يمكن أبداً أن يستشعر ظلم المرأة أو يتحدث نيابة عنها.
ما لا تعرفه هؤلاء الأخوات أن جون براون، على سبيل المثال لا الحصر، والذي أعدم شنقاً بسبب من نضاله ضد العبودية وهو رجل أبيض، هو معنون أحد أهم مناهضي العبودية أو من يسمون abolitionists.
وما فات الأخوات في خضم غضبتهن وحماسهن، أنه ليس فقط من حق الرجال المشاركة في النضال والانضمام للواء النسوية والتحدث بإسم القضية العادلة، ولكنه واجبهم في الواقع. فمن هو في موقع اجتماعي أو ثقافي أو حقوقي أو اقتصادي متميز، يصبح من واجبه الانضمام للنضال الإنساني مهما ابتعدت القضية عن واقعه. هكذا تتقدم البشرية وهكذا تتأمن الحقوق، بالتكافل لا بالانقسام لفريقين يتصارعان أبد الدهر.
النسوية لا تعني القسوة يا سيداتي الكريمات، هي لا تحتاج لصراخ وشتم وكراهية، وهي لا تتضارب والاختيارات الحياتية والمفاهيم الأخلاقية الخاصة بالآخرين، وهي لا تستعدي تحررهم أو محافظتهم، وهي لا تفرض عليهم نوعا معينا “موديرن” من الحياة، بل هي تحديداً ترمي لعكس كل هذه الفروضات.
النسوية هي حركة حقوقية إنسانية بالدرجة الأولى، تشتمل على حقوق ونضالات كل الفئات البشرية الأقلية بلا استثناء. النسوية حب للإنسان ورحمة بظروفه واحترام لحقوقه وتقديس، أي نعم تقديس، لحرياته، وهذه الأهداف النبيلة لا تتطلب قسوة وصراخا وشتما، ولكنها تترجى العمل الدؤوب والصوت الصادح الذي لا يخشى في الحقوق لومة لائم، والتخلي عن الخلافات الجانبية من أجل القضية الرئيسية، وقبول الاختلافات والاختيارات الحياتية، واعتبار أن الانتصار لم ولن يتحقق إلا حين تُنصف وتَأمن وتَتَحرر كل امرأة على سطح هذه الأرض، بل كل بشر على سطح هذه الأرض.
هذه الأهداف الصعبة النبيلة تحتاج تكافلنا جميعاً، هي قضية البشرية كافة، فالقضايا الإنسانية لا تعرف حدودا جغرافية ولا خصوصيات سياسية ولا تمييزات جندرية، كلنا في هوى الحق والحرية سوى.
لذلك، اختاري حياتك دون تصنع، احترمي اختيارات الأخريات مهما اختلفن عن النموذج الذي في بالك، قدري غياب حق الاختيار عن الكثيرات أساساً وتأملي صراعاتهن الحقيقية اليومية في خضم حيوات فرضت عليهن ولا يعرفن كيفية الخروج منها، لا جسدياً ولا عقلياً ولا فكرياً، آمني بتحرير الإرادة لا لتتحرر من هنا ثم ترضخ لنموذجك أنت من هناك وراعي أن الاختلاف لا ينال الظروف فقط ولكن طرق التفكير ودرجات قوة الإرادة والمقاومة كذلك.
كوني شفيقة في نضالك، فحركتنا النسوية هي أعظم وأنبل الحركات الإنسانية وأعلاها أخلاقية. وأخيراً، كوني حقيقية وطبيعية، لا تتصنعي قسوة ولا ترهقي نفسك بتغريبها عن محيطها. النضال الحقيقي عسير وسيتطلب منا كل طاقاتنا وإمكانياتنا…مجتمعة.
وحق أن أختم مقال كهذا بتقديم التعزية لكل نساء ورجال الوطن العربي الحقوقيات والحقوقيين، عظم الله لكم الأجر في الدكتورة نوال السعداوي، هذه المناضلة التي دفعت وبقيت تدفع أثمانا باهظة لآخر لحظات عمرها.