المساومة الفاشلة
قد يبدو للعالم “استحالة” الحلم الفلسطيني، أن كل هذه الانتفاضات المتلاحقة والدماء المنسابة والإصرار العنادي الذي كلف الفلسطينيين فوق الطاقة البشرية هي بلا مردود حقيقي، بلا نتيجة إيجابية للجانب الفلسطيني حتى ولو كان الحق معه والعدل يرجح كفته والضمير لا يستريح إلا بالاعتراف به. لكن واقع الحال يقول أن الفلسطينيين لن يتوقفوا، هم لم يتوقفوا يوم لقرابة مئة سنة، فما الذي يجعل أدعياء السلام الذين لا يرونه ممكناً سوى باستسلام وانهزام الجانب الفلسطيني، ما الذي يجعلهم يعتقدون أن الفلسطينيين سيتوقفون في يوم؟ ما الذي جعل منظري “الأمر الواقع” يتصورون أن هذا الشعب الكبير المهجر المشرد الذي خلق نوع أدبي من عمق معاناته واغترابه ألا وهو”أدب الشتات”، سيقرر ذات يوم أن يلقي بالتاريخ والماضي كله خلف ظهره ويمحي كل أثر لهويته من ذاكرته مؤسساً لهوية وواقع جديدين يعوضا هذين المسروقين قهراً وفي جنح ظلام المعاهدات المدفونة بين حربين عالميتين؟ ستون سنة والفلسطينيون يقاومون في الداخل ويمثلون القضية في الخارج، حتى أصبح كل فرد في الداخل عنصر مقاومة وكل مُهَجَّر أو مشتت سفيراً لوطنه وهويته وتاريخه وقصة اغتصاب بلده وأرضه. شعب كهذا، كل فرد فيهم مقاوم، كل فرد فيهم سفير، كل فرد فيهم بذرة فلسطينية مزروعة في الأراضي الجديدة حيث ينتظرون ويقاومون، أي إشارة أعطانا هكذا شعب لإمكانية استسلامه أو نسيانه لحكايته؟
لقد أصبحت المعاناة جزء لا يتجزء من التكوين الفلسطيني، وأصبحت التضحية لون رئيسي في هويته. نحن نتكلم عن شعب تنجب عائلاته سبع وثمان وعشر أطفال وقوداً للقضية، تحسباً لفكرة أن ثلاثة أرباعهم سيموتون فداءاً للأرض، تمويلاً بشرياً “لجيش مدني” عدته الشباب والشابات المدنيين وعتاده صرخات من حناجرهم وحجارة في أياديهم، فأي فكرة مجنونة هي تلك التي لدي البعض بأن مآل الفلسطينيين للانهزام والرضوح للأمر الواقع؟ هل سيرضخ شعب ينجب، مع سبق الإصرار والترصد، فلذات أكباد لكي تموت تحت الدبابات؟ هل سيمل أو ييأس بشر يعلقون مفاتيح بيوتهم القديمة في حبال مهترئة على صدورهم المتحشرجة لآخر يوم في حيواتهم ثم ليورثونها لأبنائهم كأثمن ما يملكون على هذه الأرض؟ كيف يمكن أن يتوقع العالم نهاية لهذا الصراع بدءاً باستسلام الجانب الفلسطيني؟ كيف يمكن أن يظن العالم أن من فقد كل شيئ يمكن تهديده أو إرضاخه أو مساومته؟ مساومته على ماذا بعد أن خلي وفاضه من كل شيئ؟ تلك هي النظرة المستحيلة والساذجة وغير المنطقية.
المنطقي هو أن يبدأ الحل من الطرف الإسرائيلي، بداية بالاعتراف أن هذه حالة حرب لن تتوقف أبداً ولن يكون من الممكن السيطرة عليها مطلقاً مهما امتد الزمان. هذا ليس حديث رومانسي حالم، إنما هو قراءة واقعية لسلوك شعب لم يتوقف عن المقاومة ليوم وطوال مئة سنة. لربما نحن نشاهد، من خلال وسائل الإعلام، الانتفاضات الزلزالية بين فترة وفترة، إلا أن هذا لا يغير من واقع الحال أن كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة هناك صراع ومقاومة وصد ورد على الأراضي الفلسطينية. لابد لقوى الاحتلال أن تستوعب أن الفلسطينيين دائماً وأبدأً سيبقون ينظرون لها هكذا، على أنها قوى احتلال، بما سيفرض مشهداً عناصره من يحمل لواء الصراع المستمر والولادات الفلسطينية المستمرة والتي تأتي للدنيا من أجل هدف واحد، الاستشهاد في سبيل الوطن.
يعي العالم بأن هناك أجيال إسرائيلية ولدت على أرض الاحتلال دون اختيار منها أو وعي كامل بمحيطها، هي أجيال في الغالب كبرت مغسولة أدمغتها إقتناعاً أن الأرض الفلسطينية حق ديني لليهود، وهو الادعاء الذي لا يسانده يهود العالم الملتزمين في الواقع، ولا يجب أن يسانده أي إنسان يتفق والمفاهيم الحالية للعدالة ومناهضة التمييز، فأي تمييز أبشع من إسباغ هوية بناءاً على الانتماء الديني؟ ورغم ذلك هذه الأجيال لابد من أخذها بعين الاعتبار وذلك بخلق حل يستوعبهم ويأخذ مصائرهم بالحسبان. الوضع الراهن يحتم تفاوضاً من هذه الزاوية نظراً “لتورط” أجيال وجدت نفسها مولودة لهذا المشهد الدموي البائس. إلا أنه إذا بقيت إسرائيل على إصرارها على دخول هذا التفاوض من باب المنتصر وعلى كتابة المستقبل بقلم المستقوي على الآخر بجيشه وسلاحه وعلاقاته المريبة مع القوى العظمى التي تسانده، فإن هذا التفاوض، مثل كل التفاوضات الماضية، سينتهي قبل أن يبدأ، ولن يكون له من أثر سوى ذاك الذي للزيت المصبوب على النار.
بأي عقل أو منطق يخاطب “دعاة السلام” شعب لم يعرف طعم السلام لما يقترب من مئة عام؟ بم يقايض العالم الفلسطينيون وقد فقدوا أعز ما يملكون؟ لكي تتوقف هذه الحرب، يجب أن تتوقف وتتراجع إسرائيل، ليس لأن هذا هو الموقف المستحق العادل الإنساني الضمائري الأخلاقي فقط، ولكن لسبب أقوى ألا وهو أن هذا هو الموقف الواقعي الوحيد الذي يمكن أن يتجاوب معه الفلسطينيون، أو…سيبقون يموتون دونه.