الفراغ الآمن
قبل أيام انتهت مدتي مع لجنة إجازة النصوص المسرحية، مدتها سنة، والتابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، والتي هي لجنة فنية، معنية بإجازة النصوص المسرحية التي تعرض على مسارح الدولة، أي أنها لجنة معنية بالقطاع الحكومي، ولقد تشرفت بقبول الدعوة الكريمة للانضمام للجنة، وكعادتي، حاملة معي نفساً من التحدي. فعلى الرغم من أنها لجنة فنية معنية بقيمة النص المسرحي وبحماية المسرح من أن يعرض عليه نصوص مسروقة والاهتمام بتحديد الفئة العمرية لما يعرض على الخشبة، فإنها، كغيرها من اللجان الفنية والأدبية في الدولة، تقع تحت سيف قانون المطبوعات المعيب، وأينما كان هذا القانون يكن التحدي حاضراً.
ولقد كنت كغيري من محبي الثقافة والفن، أعتقد أن قانون المطبوعات هذا هو وحده السيف المصلت على القلم المثقف، فوقفت مواجهة هذا القانون في بعض اللجان في مجال عملي، ثم وجدت هذه فرصة أن أقف وقفة مجددة في مواجهة هذا القانون من خلال لجنة إجازة النصوص. كنت أعتقد أني العضو البطل، أنا التي ستدافع عن الإنتاج الفني والأدبي في دولتنا، أنا التي سأقف أمام القانون، كما وقفت عدة مرات من قبل، وأقول له الإبداع “يوصلك ويتعداك”. كنت أجد في اللجنة، برغم طابعها الفني، وبسند من خبرة وتخصص كل أعضائها وخضرمتهم في المجال المسرحي، كنت أجد فيها ساحة قتال جديدة أحارب من خلالها قانون المطبوعات القامع للإبداع.
وكم كانت التجربة مهمة، في وضعي أمام نفسي وأمام آرائي، في أن تجبرني على التواضع في رؤاي والتمهل في أحكامي. خلال شهور عدة عملت فيها مع زملاء اللجنة تبين لي أن الأزمة تتعدى فعلياً الرقابة وقانون المطبوعات وإن كانت لا تتعدى السبب والمصدر: الحكومة ومنهجيتها الحزينة. لقد تبين أن الأزمة هي أزمة قلم، هي أزمة ثقافة وفن، قبل أن تكون أزمة رقابة، فأغلبية النصوص التي مرت على اللجنة هي نصوص تجارية حد الغثيان، فيها تعدد الزوجات يصبح مادة هزلية، والجن والزار والدروشة مادة واقعية، فيها يموت الهدف وتقتل الرسالة في مهدها ولا يبقى سوى ضحك هزيل، تثيره نكت لها شبهة عنصرية أو فئوية، نكت تضطهد الناس في أشكالها وخلقتها، نكت تتداول أخطر مواضيع الساعة بشكل رخيص سمج. المهم أن الشباك يبيع والصالة تمتلئ، وبعدها ليذهب الفن ورسالته وقيمته فداءً للدينار الجميل.
لم يكن الصراع صراع تحد للرقابة، فمعظم هذه النصوص كانت تخلو من محاذير قانون المطبوعات سيئ الذكر، إلا أن الصراع كان صراع قيمة فنية، خاضه أعضاء اللجنة بصبر وجلد، وهم محكومون بشرط الحد الأدنى للجودة، فلا يرفض النص إلا إذا زاد سوؤه عن الاحتمال، وهم كذلك محكومون برغبتهم في استمرار الحركة المسرحية في الكويت، فتراهم يحاولون ويجاهدون من أجل تحسين وجوه هذه النصوص حتى تظهر بشكل شبه مقبول. صراع وعناء تمر به اللجنة ما تصورته وأنا أحكم على لجاننا، في عموم أحكامي، بأنها ناسفة خاسفة للإبداع.
بلا شك هو إثم حكومي، إثم يتمثل بمناهج دراسية قتلت الإبداع ورسخت الخرافات والسخافات، إثم يتمثل بغياب جو فني عام، في غياب الدعم والمساندة للمستحقين حتى يتسنى لكاتب ما أن يتفرغ فيكتب نصه في شهر مثلاً لا في ساعتين كما تبدو حال معظم النصوص، إثم يتسنى في تقوية ظهر الدين المتطرف الذي حرم الحلال وحلل المشبوه، فابتعد الناس عن الفن الذي يحمل قيمة، خوف أن تكون هذه القيمة إثماً، والتصقوا بالفن الخاوي، فالفراغ آمن، ولا يمكنه أن يضر.
وأي ضرر يسدد لنا هذا الفراغ، أي فقر، أي ضعف، أي غياب للمشاعر الحقيقية والإحساسات الإنسانية؟ المسرح، تلك الخشبة المقدسة، التي لا يجرؤ أن يقف عليها إلا من بإمكانه أن يستوعب بالكامل مدى تأثير رسالتها، هذه الخشبة يقف عليها اليوم من يبيع الناس الضحكات بأسمج الكلمات وأسوأ التعابير وأخطر الأفكار وأكثرها عنصرية. المهم، أن الشباك شغال، والمسرح شغال، وعلى مدار السنة لا يقف مسرح هذا الممثل أو ذاك، يجترّ ذات النصوص الرديئة، ومع كل اجترار يردي قيمة من قيم المسرح وفضيلة من فضائله قتيلة. أما الاقتباسات الكسولة والسرقات المخبئة والأخطاء المهولة، التي تبدأ من نصوص مطبوعة بغاية الرداءة، وصولاً لأخطاء تاريخية فاحشة المقدار، فكلها فصل آخر من ذات القصة الحزينة، قصة مسرح دولة يموت.
لا أنفي أن هناك من يقدم نصوصاً جيدة، مر عليّ ثلاثة أو أربعة منها في عمر هذه اللجنة الأخيرة، ولا أبخس الفرق المسرحية الشبابية حقها، سواء تلك المنتمية إلى المعهد العالي للفنون المسرحية أو غيرها من المستقلة، في محاولاتها الفنية الحقيقية، ولكن، طالما بقي الإبداع في أسفل السلم، تخنقه المناهج الدراسية، ويشله ضيق ذات اليد، ويعجزه عدم القدرة على التفرغ، ستبقى الحال رديئة والمسرح الحكومي، في أغلبيته، تجارياً هزيلاً حزيناً.
لم يحتمل قلبي هذا الحزن، فتركت زملاء رائعين خلفي يستكملون المشوار، أراهم بإخلاص يحاولون ويحاولون، كنت أحياناً إبان زمن اللجنة يأخذني اليأس فأنزوي، وأجدهم جادين في محاولات التحسين، في إيجاد طرق لفتح الباب أمام الجميع بأقل الأضرار وبأفضل النتائج. كلهم يؤمنون بالمسرح، وبضرورة أن يستمر وبأن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وأنا أؤمن معهم، ولكنني مضطرة لأن أتركهم، فظروف عملي ومشاغلي مصحوبة بأحزاني المسرحية الفنية جعلت من توقفي الآن ضرورة ملحة. تركني الزملاء أو أنا تركتهم بوعي أكبر وفهم أعمق لحدود المشكلة، فمع استمرار كون الرقابة عدوي الأول، تبين لي أن غياب الثقافة وضياع الإبداع وضحالة المناهج هي عدوي الأخطر، هي من يقف للإنتاج الفني والثقافي في الكويت بالمرصاد.
الطريق طويل وزمن قطعه حزين ولكن اجتيازه ممكن، وأنا على الرغم من انتهاء مدتي واعتذاري عن تجديدها، متفائلة وأؤمن بفرج قريب، وأتمنى لزملائي الأعزاء كل التوفيق.