تحميل إغلاق

صلعة سياسية

صلعة سياسية

وافق مجلس الوزراء العراقي على مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفرية بتاريخ 25 فبراير/ شباط 2014، في خطوة لا تشير فقط الى التراجع المدني والديمقراطي العظيمين في العراق، ولكن، والأكثر إيلاماً، الى عملية ‘التصليع’ في هذا التراجع، الى مرحلة أسقط فيها الساسة الستار واستغنوا خلالها عن كل مواربة. وقبل الخوض في القانون الحزين المقترح، لابد من توضيح وجهة نظر عامة عن الموضوع. لكي تأخذ الدولة، أي دولة، شكلا مدنيا تاماً وتتلبس روحا ديمقراطية حقيقية، يجب أن تكون كل قوانينها مدنية خالصة تنظر بعين المساواة لكل المواطنين والمقيمين، ذكوراً واناثاً، مسلمين ومسيحيين وأصحاب عقائد أخرى ومن غير أصحاب العقائد، أغنياء وفقراء. فأما قانون الأحوال الشخصية النافذ حالياً في العراق فيستند في مجمله على المذهب السني، الا أنه لا يزال، وفي نواح متعددة أفضل من القانون الجعفري المقترح، في حين أن ذاك الأخير يحرز تقدماً طفيفاً على القانون النافذ في مواقع قلة. مثالياً، كان يجب إلغاء كل القوانين ذات الطابع الديني، سنيها وشيعيها، وتوحيدها في قوانين مدنية تقيم العدل بين الناس بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم، الا أن واقعنا ليس مثالياً وظروفنا تفتقر إلى الحدود الدنيا من الإستقرار وأيديولوجياتنا كلها وصلت نقاط الغليان، لذا، لربما أتفهم مطالب الناس في إقرار قوانين أحوال شخصية مبنية على توجهاتهم الدينية، تلك التي توفر لهم حياة مبنية على عقائدهم على الأقل في ‘أحوالهم الشخصية’، الا أن ‘المضض’ في قبول مثل هذا التشريع يحتاج الى شروط قوية ونافذة: توافر قانون مدني بجانب القوانين الدينية يمكن للناس الإحتكام إليه في حال لم يرغبوا في التشريع الديني، أن يضمن نص القانون العام حرية اختيار الأطراف المعنية، رجالأً ونساء، للقانون الذي يريدون الإلتجاء إليه، أن يكون القانون مبني على قراءة تقديمة ومتحضرة جداً للمذهب أو الدين، ألا يفرق القانون بين الرجال والنساء وأن يضمن أعلى درجات المساواة والكرامة الانسانية للنساء تحديداً باعتبارهن عادة الضحايا الأوائل للتشريع الديني السياسي. للأسف، تغيب كل هذه النقاط عن المشهد العراقي التشريعي الحالي، حيث يتجاور القانون السني مع الشيعي للأحوال الشخصية في غياب قانون أحوال شخصية مدني، وهو غياب تعاني منه معظم دولنا العربية، وحيث يأتي القانون الجعفري الجديد ليمعن في اضطهاد وامتهان المرأة والحد من حرياتها والتفريط في صحتها الجسدية والنفسية، عودة بها مئات السنوات الى ماضٍ بالكاد كانت قد تخطته.
ولابد هنا من الإقرار أن القانون الجعفري المقترح هو لا يمثل سوى وجهة نظر، قراءة في الفقه الجعفري، مثل حال القانون السني الذي يمثل وجهة نظر استنباطية. إلا أن هذه القراءة تبرز وجه المحنة الأيديولوجية العراقية، محنة لا تختلف كثيراً عن تلك التي لجارات العراق في الشرق الأوسط، حيث يبرز التمييز الديني والتقسيم الطائفي، ليؤطر كل ‘قسم’ في أبشع إطار وأكثرها تطرفاً. مخيف أن يفكر الساسة اليوم بهذا الاسلوب، والأكثر ترهيباً أن يعلنوا أفكارهم في صيغ ‘قانونية’ لا تمت لفكرة القانون وعدالته ومنطقيته بصلة ولا توحي بأي قراءة حديثة وعقلانية وواقعية للقواعد الفقهية المذهب. ولقد قدم القاضي والكاتب رحيم حسن العكيلي في بحثه المعنون ‘نظرة تقييمية لمشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري’، وهو البحث الذي سأعتمد عليه في كتابة مقالي هذا، قراءة تفصيلية ممتازة لهذا القانون، سآتي أنا على الأجزاء التي أجدها أشد خطوراً وإيلاماً والتي لربما تتحقق بالنظر الى وضع المرأة في نصوص هذا القانون حيث أتى العكيلي عليها بشيئ من التفصيل أختصرها أنا في التالي: الولاية في تزويج الأنثى مدى حياتها ما دامت بكراً، تعدد الزوجات، الإستمتاع (وجوب تمكين الزوجة لزوجها من نفسها متى شاء بينما يقتصر حقها في المقاربة على مرة كل أربعة أشهر)، النشوز(المرأة ناشز اذا منعت زوجها عنها متى ما طلبها)، الحضانة (تسقط عن المرأة فور زواجها)، النفقة (لا نفقة بلا استمتاع حتى ان كان سبب عدم الإستمتاع هو الزوج)، لا تزوج المسلمة من غير المسلم، التمييز في الإرث والدية والشهادة. هذا، ولا يحدد القانون سن للزواج، مما يبيح تزويج القصر، ولكنه، يقول العكيلي ‘حدد … سن للبلوغ ، وهو غير سن الزواج اذ انه يرتبط بموجب مشروع القانون بامكانية ممارسة الجنس وليس بالزواج لأن الأخير جائز في كل وقت وبأي سن، لكن لا يمكن ممارسة الجنس مع الزوجة الصغيرة لحين بلوغها التاسعة (ثمانية سنوات ويوم واحد)’. هذا، وتنص المادة 147 الخاصة بالطلاق على أن الطلاق البائن يكون في ‘طلاق الصغيرة التي لم تبلغ (9) التسع سنوات من عمرها وان دخل بها عمداً أو اشتباهاً’ مما يدل، كما بين العكيلي، على أن للزوج الحق في معاشرة الصغيرة حتى قبل بلوغها فهو قد ‘ينصح الأزواج (بطريق غير واضح مطلقاً) الى عدم ممارسة الجنس معهن حتى بلوغ التاسعة’ لكنه لا يمنع، بل يشرع للحالة بعقوبة ‘طلاق بائن’ لمن يطلق صغيرة وقد دخل عليها قبل أن تبلغ الثامنة (سن التاسعة في القانون هو ثمان سنوات ويوم واحد). ليس ما سبق سوى غيض من فيض مما جاء في نصوص هذا القانون، فهناك تمييز كبير بين المسلم وغير المسلم كذلك من حيث الإرث، أسلمة الأطفال لأبوين مختلطي العقيدة، منع حضانة الطفل المسلم عن الوالد أو الوالدة غير المسلمين، منع زواج المسلمات من غير المسلمين، عدم ولاية غير المسلم على المسلم، لا وصية لغير المسلم، لا شهادة لغير المسلم، وكلها جاءت بشرح تفصيلي في بحث العكيلي. وهنا يجب الإشارة الى أنه لا يكتفي العكيلي فقط بسرد السلبيات، فهو يأتي على ذكر إيجابيات القانون وتفوقه في نقاط قلائل على القانون الحالي النافذ، مقدماً مادة جيدة ومحايدة لمن يرغب في قراءة تحليلية للقانون.
لم يعد من الممكن اليوم، في هذا الزمان، وتحت مظلة التطور الفكري والإنساني الحاليين، أن يقبل أي تشريع تمييزي يمتهن كرامة الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، ويستغل ضعفه ويصيره عبداً لإنسان آخر، بحجة الخصوصية أو شخصية العقيدة. فالدولة التي تقنن وتطبق يجب عليها أن تأخذ بعين الإعتبار، قبل تفرد العقيدة وخصوصيتها، الصالح العام لمواطنيها، سلامتهم النفسية والجسدية، ضمان حرياتهم وكراماتهم، ومساواتهم التامة أمام قوانينها وتطبيقات هذه القوانين. لست هنا أنتقد مذهباً بعينه، فالمذهب الشيعي مثل أخوه السني، يمكن أن يُقرأ بعين متمدنة متحضرة، تستحضر روح الدين وتدمجها بالعصر ومتطلباته، ويمكن أن يُقرأ بعين رجعية، ترى من منظور واحد ومن زمن غابر ومن نصوص متصلبة لا تستوعب التغيير ولا تتمكن من مجاراته. إن القانون المقترح هذا يعيب على واضعيه قراءتهم المتخلفة التي لم تعد بالمجتمع مئات السنوات الى الخلف فقط، ولكنها في الواقع شوهت المذهب الذي ترمي لتطبيقه وأساءت الى كل تقدمي متمدن يدين به. أقول هذا وأنا لازلت أبتلع ‘المضض’ في إمكانية تشريع قانون أحوال شخصية ديني، فعالم اليوم لا يحتمل سوى القوانين المدنية الخالصة ولن يستتب السلام فيه الا إذا انفصل التشريع الديني عن ذاك السياسي بشكل تام وكامل. ودون ذلك، سيبقى الناس يتنابزون بالتشريعات، وتبقى هناك يد عليا لمواطن على أخيه، ويبقى هناك تمييز يوجع القلب ويثير النعرات وينفي السلام في أوطان لم تكد تستقبله (هذا السلام) بعد.
من أجل قراءة كاملة لنصوص القانون:
http://almasalah.com/ar/news/ar/NewsDetails.aspx’NewsID=18949

اترك تعليقاً