السيارة السوداء
كان زوجي شاهد عيان على حادثة مثيرة للاهتمام في لبنان قبل أيام قليلة مضت، وكان لي أن شهدت أجزاء من القصة التي قام زوجي بتسجيلها بالصوت والصورة. فتاة شابة تقود “بي أم دبليو” فاخرة تقف بسيارتها بعرض شارع الحمرا في بيروت، ولأكثر من نصف ساعة ترفض تماماً التزحزح عن مكانها، ولنصف هذه المدة ترفض كذلك أن “تنسم” زجاج سيارتها الأسود لتتحدث مع الشرطة الذين حوطوا سيارتها.
بعد القدوم المتتالي لثلاثة من رجال الأمن كل برتبة تعلو سابقه، وبعد عدد من الاتصالات، وانتهاءً بصعود أحد رجال الأمن هؤلاء في سيارة الصبية، لربما متوسلاً ولربما مقنعاً إياها بالتحرك، قبلت هي أن تزيح سيارتها، إلا أن الناس حوطوها في الشارع رافضين أن تتحرك قبل أن يضمنوا تحويلها إلى مركز الشرطة لتنال عقوبتها على سد الشارع الحيوي وتعطيل المرور لربما إلى منتصف بيروت.
بالطبع، تحركت السيارة بعد فترة بمعية رجال الأمن، وذهبت الفتاة “الواصلة” إلى حال سبيلها دون أن تطولها أي عقوبة، أو على الأقل لم يصلنا من هذه العقوبة التي لا يمكن أن تقع أي خبر.
لا أدري كيف حركت هذه القصة كل اللواعج وأثارت أشجان مصائبنا وخراباتنا الأخلاقية. شيء ما تمثل بهذه الفتاة، في جبروتها وثقتها بأمنها تحت ظل سلطة، على ما يبدو، لا يعلوها سلطة. تبدو لي هذه الفتاة بسيارتها الـ”بي أم دبليو” مثالاً على كل من يملك قوة في عالمنا العربي، فعوضاً عن استخدام القوة والسلطة في شيء من الصلاح، نجدهما يوظفان لإنجاز المصالح، لتحقيق أهداف شخصية، وأحياناً للتمتع بفكرة السلطة غير المصحوبة بهدف، أي السلطة من أجل السلطة، داء عربي بامتياز. وها هم إخوان مصر الذين تحرروا من قمقمهم يوقفون سيارتهم في عرض الشارع المصري، مقسمين هذا الشارع على نفسه، خانقين منافذه، مربكين حركة سيره حتى وصل الوضع إلى مرحلة انفجار مخيف.
يقول حسن إبراهيم أحمد في كتابه “العنف: من الطبيعة إلى الثقافة”: “المعارضات تبحث عن مواقع لها في الدول حديثة النمو، والأحزاب والكتل السياسية الكبرى تمسك بخيوط اللعبة السياسية، فلا تحرم هذه المعارضات بالعنف والسجون فقط، بل بالقوانين، فتسن القوانين بتحريم هذه المعارضات وملاحقتها، أو بحرمانها من أي دور. وحتى مفهوم الأكثرية والأقلية باعتباره أسلوباً ديمقراطياً كاف لحرمانها وإبعادها بمنطق السياسة والديمقراطية، مما يدفع بعض هذه الجهات لممارسات عنيفة تظهر كأنه هجوم على السلطة وتكون مبرراً للقمع” (162).
ينطبق هذا الوصف على جل المعارضات العربية، وقد يبدو لصيقاً بالحالة الكويتية خصوصاً فيما يتعلق بتحوير الوضع ليصبح هجوماً على السلطة، وبالتالي مبرراً للقمع. هذا الوصف يأخذاً بعداً ثنائياً في الحالة المصرية من حيث التنكيل القريب جداً زمنياً لمعارضة سابقة بمعارضة لاحقة، فالإخوان المسلمون بدؤوا بكينونة معارضة أيديولوجية عنيفة مبنية على منطق سياسي واجتماعي إرهابي وترهيبي، إلا أن المتوقع كان أن يتكفل الزمن بنزعهم من مهد المعارضة المتطرفة الحاقدة إلى نضج المعارضة السياسية الحقيقية واضحة الأهداف ذكية الأسلوب. تلك بالطبع تبقى معارضة دينية لا يمكن للفكر المدني الحديث أن يقبلها، إلا أنها كانت لتأخذ شكلاً سياسياً متطوراً يؤهلها أساساً للقب معارضة، وقد يكون الوضع في تركيا مثالاً واضحاً على إمكانية مثل هذا التحول ولو إلى حين. إلا أن ما حدث مع الإخوان، معارضي الأمس، سلطويي اليوم، هو أن استبد بهم شعور صارخ بالنصر، مخلوط بمرار قمع سابق، لينمو معززاً، كما يعتقد أصحابه، بالمساندة الإلهية. وعليه، وفي غمضة عين تتحول المعارضة المعذبة إلى سلطة قبيحة، ويبدأ العنف، وتفتح السجون وتسن القوانين التي هي ليست بقوانين، لتنكل بالمعارضة الحالية، الفرق، أن السلطويين هذه المرة هم “أهل الله” والمعارضة هم الشيطان، وكيف نقلب الطاولة على هكذا سلطة؟
ذاك هو عمق الكارثة الحديثة للدول العربية والإسلامية، فمعارضاتها المنكل بها، ما إن تعتلي “العرش”، حتى تتحول إلى صورة طبق الأصل من السلطة فتنكل بالمعارضة التالية، “وكله دستوري وقانوني”. رأينا ذلك يحدث في إيران في أبشع صوره، وها هي النماذج تتدحرج إلى حيث مناطقنا العربية التي تحاول استبدال مستبديها، ليظهر لها مستبدون جدد، مسلحون “بالوحي” وموعودون بالنصر الإلهي. هي مرحلة مستوجبة إلا أنها زائلة، فالخوف زائل والكذب زائل، وسيأتي اليوم الذي تختفي فيه السيارات السوداء من شوارعنا، ونمضي فيها آمنين.