تحميل إغلاق

‘خمس نجوم’

سيدة كويتية تشارك في اعتصام ضد للرقابة

‘خمس نجوم’

خلال كل السنوات التي نشطت فيها مع زملاء وزميلات في عدد من القضايا الإنسانية، وأهمها قضية عديمي الجنسية، أو البدون كما يطلق عليهم في الكويت، كان من المثير للانتباه مراقبة ردود الفعل تجاهنا وذلك على حسب جنسنا: رجالا ونساء.

كل الناشطين الإنسانيين في الوطن العربي معنونين بعناوين عادة ما تكون على درجة كبيرة من التشابه: خونة؛ ينشرون الغسيل؛ كارهون حاقدون… وفي الخليج عندنا، يذهب النقد للأصل والطبقة: عيال فقر لم يعرفوا النعمة؛ أصولهم متدنية؛ ليسوا عربا أقحاحا؛ يعلم الله ما هو منبتهم؛ إلى آخر هذه التعليقات، التي ولكثرة ترديدها ما عاد لها من أثر يذكر، وخصوصا لي شخصيا فيما يخص الأصول والطبقة.

فأنا لا أنتمي للعرب الأقحاح، وبحسب علمي أصولي فارسية، ولا أمتلك قصرا في الريفييرا ولا شقة في كان الفرنسية ولا حتى استوديو متواضع في لبنان؛ سيارتي مقسطة وبيتي “أرض وقرض” وحياتي من راتب إلى راتب، فإذا كانت وسطية الطبقة تهمة واختلاط العرق شبهة، فأنا متهمة ومشبوهة بكل تأكيد.

كل ذلك على جنب؛ تتلقى النساء ردود فعل خاصة ويعاملن معاملة خمس نجوم، مما يعده النقاد والمهاجمين من ذم وقدح لهما طعم وطبيعة خاصين. أول ما يتم مهاجمته حين يكون الهدف امرأة ناشطة هو “الشرف”، هذا المفهوم الهلامي الذي لا تُعرّفه في وطننا العربي منظومة أخلاق ولا أساليب تعامل ولا فكرة الإخلاص في العمل أو نظافة اليد أو اللسان أو الذمة، إنما تُعرّفه مفاهيم ذكورية حول الجسد والعلاقات الإنسانية وأساليب المعيشة الاجتماعية.

المتزوجات منا يحظين بفرصة حماية أكبر من هذا الهجوم. ففي حين أنه ومع بداية عملي في المجال كانت هناك محاولات للتشكيك في شخصي وتوجهاتي الحياتية، فإن هذا الأسلوب سرعان ما تبخر بسبب “نمطية” حياتي: فأنا متزوجة، وعندي أولاد، وزوجي وابني ووالدي وإخوتي ووالد زوجي وإخوة زوجي، أي كل الرجال في حياتي يشكلون درعا وحماية وسند. أنا محوطة بجدران من حديد اجتماعي لا تستطيع الألسن أن تخترقها. بكل أسف أنا محمية ليس بأخلاقياتي أو بنوعية عملي ودرجة إخلاصي فيه، لكنني محمية بتقليدية حياتي وبنمطية حماية رجالها لي. أقول بكل أسف، لأنه رغم امتناني لحظي في الحياة، إلا أنني أدرك أن لا فضل لي في تشكيل هذا الحظ، وأن ما يحميني هو التنميط والقوالب التقليدية التي أمضيت حياتي أحاول التغلب عليها.

إلا أن “جيب السبع لا يخلو” والذكور السباع على وسائل التواصل لها ألف مخلب ومخلب تمزق به أرواح النساء. فإن لم يكن الهدف الشرف والسمعة الاجتماعية، يلتف هؤلاء على الشكل والمظهر، ويضربون حيث يعتقدون أنه الموقع الأكثر إيلاما.

حين كان لدينا في مجلس الأمة الكويتي أربع نائبات، كانت أغلب التعليقات تنصب على مظهرهن، وكانت محاولات إيلامهن بالتعليق على الشكل والوزن والجمال ونوعية الحقيبة وطريقة الملبس منجم سفاهة ورخص لا ينضب، ليس فقط لتفاهة التعليقات؛ ولكن أولا لوقاحة تعاملها مع جانب خاص تحديدا في هذا العالم العربي الذي يعتقد فيه رجاله بأن مظهر النساء شرف وسمعة، طبعا نساؤهم هم فقط أما الأخريات فهن مادة مباحة للنظر والتعليق، وعليه فإن هذا الضرب الشكلي يفترض أنه يمس السمعة كذلك، وثانيا لأن هذا النقد يشير إلى خلو الوفاض من أي نقد حقيقي، وكأن المجتمع الذكوري العربي غير قادر على تمييز الأخطاء التي تستحق النقد والمسارات التي تحتاج إلى تعديل، لينصب عدد غير هيّن من الرجال (والنساء الذكوريات فكريا وعقليا) معلقين بسخرية وقحة على الشكل والمظهر.

قبل سنوات سبقت عام 2005، حين كنا نطالب بإعطاء المرأة كامل حقوقها السياسية، من تصويت وترشح لمجلس الأمة الكويتي، علق أحد نواب المجلس آنذاك تعليقا انتشر على نطاق واسع مسميا النساء العاملات في المجال بـ”الخراتيت”. وقبل شهور حين خرجنا اعتصاما أمام المجلس من أجل المساواة بين الجنسين في حركة “قرع الجرس” تضامنا مع ذات الحركة التي انتشرت في أسواق البورصة العالمية من أجل ذات الهدف، أسمونا على وسائل التواصل بالأبقار. وقبل أيام حين خرجنا اعتصاما مرة أخرى أمام ذات المجلس من أجل حقوق عديمي الجنسية توالت ذات التعليقات؛ يحضرني أحدها الذي أشار (لي شخصيا) إلى أنني عجوز “قريح” وقعت في حب بدون (أي عديم جنسية كما يشار لهم في الداخل الكويتي)، وآخر أشار إلى أن قلة عدد الحضور في الاعتصام مرده إلى غياب الجمال بين المعتصمات. وفي حين أن ردود الفعل تجاه الاعتصام كانت ممتازة وأثارت حراكا ونقاشا هما الهدف منه، إلا أن هذه التعليقات كانت تأخذ بعض أحبال النقاش بعيدا عن مسار رياح القضية، تعطيلا وإعاقة لهذا المسار الصعب العسر أصلا.

ولكن، إذا ما خرجنا من دائرة شخصانية هذه التعليقات ووقفنا نناظرها بحياد نحن النساء، لا بد وأنها ستظهر خلابة فعلا. فهذه التعليقات تشير بوضوح إلى أن لا شيء كثير تغير في عالمنا الذكوري الشوفيني هذا. لا يزال المجتمع ينظر لشكل المرأة لا عملها، ولا يزال سلاحه الأول في ضربها هو الشرف والشكل؛ لمّح عن شرفها واستهزئ بشكلها، ستكسرها وترجعها للبيت وهي حسيرة. مبهرة هذه الصورة لسفه الخصومة وتفاهة السلاح الحربي، وهي صورة تُظهر بوضوح أن معركة المرأة دائما مضاعفة.

فالمرأة منوطة ليس فقط بالتعامل مع قضيتها، ولكن كذلك بالتعامل مع الفجور في مخاصمتها والذي يتمدد ما بين تفاهة النقد للشكل والمظهر وصولا إلى جدية خطرة للضرب في الشرف والأخلاق. كل صراع إنساني هو مباشرة مضاعف الصعوبة والأثر عند وصوله للنساء.

ولأنني “عجوز” منذ طفولتي، ألبس ملابس العجائز وأستمع لعبد الوهاب وأم كلثوم وأنا بعد ابنة الثانية عشرة، ولأن الجمال لم يكن موضوعي في يوم ببساطة لأنني أنتمي لعائلة ترتفع فيها نسبة الجمال وأنا “البطة المختلفة” فيها، فإن هذه النوعية من التعليقات قليلة التأثير الشخصي.

بالتأكيد هي ذات تأثير عام مرتفع وإلا لما كانت محل كتابة مقال كامل، فهي تعرقل الحوار وتأخذ الموضوع محل الاهتمام إلى تشعبات تافهة وإلى مناطق ساخرة يصعب العودة منها، وهي تنشر أقوالا تتحول مع الوقت إلى أمثلة رديئة متداولة يصعب التخلص منها والعودة إلى أهمية وخطورة القضية الرئيسية، إلا أن تأثيرها الشخصي محدود على هؤلاء منا اللواتي يعملن في المجال منذ زمن واللواتي لا يخشين نقد شيء لا يشعرن أصلا بامتلاكه أو بأنه محدد ومعرف لكينوناتهن.

وتبقى الحقيقة المؤلمة أن مهما بلغت قدرتنا على تجاهل هذه التعليقات العنصرية أو حتى المزاح حولها، كما نفعل كثيرا بين بعضنا البعض، تبقى هي قادرة على ترهيب كثير من النساء وإبعادهن عن ساحة عمل هي أشد ما تكون حاجة لتواجدهن وتفاعلهن.

أقولها للشابات القادمات إلى هذا المجال: لقد سمعنا الموشح بأكمله، بكل فحشه ورداءته، بكل سواد كوميديته، بكل ضرباته الموجعة داخل الروح والقلب، فمن “خراتيت” إلى أبقار إلى “عوانس” قبيحات إلى غزل فاحش إلى ذم فاجر؛ كله سمعناه وخبرناه، ولم نفقد يد أو قدم أو شعرة واحدة من رؤوسنا. كل ما تحتجن هو الوعي بالمجتمع الذكوري وأساليب حربه والإيمان بالقيمة الشخصية لأنفسكن، عندها ستكون الرحلة أيسر. إذا قال لك أحدهم ذات يوم “أنت بقرة”، أرعبيه، ابتسمي له من الأذن للأذن وأنت تنظرين له مباشرة في عينيه وقولي له بعلو صوتك “موووو” وأكملي المسير.

اترك تعليقاً