الجدة العنيدة
لن يتطور وضع المرأة العربية بأي نسبة ملحوظة اذا لم تتغير اللغة العربية وبشكل جذري في تعاملها مع الجنسين. في الواقع، تحتاج اللغة العربية الى تطوير حقيقي في نواح مختلفة حتى يتحقق أي تغير ملموس في الأيديولوجيات العربية الاجتماعية والفكرية والدينية وغيرها. تبقى اللغة ثلاجة الفكر، الحافظ الأول والأفضل والممثل الأقدر لطبيعة ونوعية وعمق الأيديولوجية المجتمعية، من خلال ألفاظها نغور في عمق المجتمع، وبنظرة على تركيبات جملها نتفهم التركيبة السيكولوجية لمستخدميها، ومن رنتها وارتفاع وانخفاض نبراتها نتعرف على الطبيعة النفسية والروحانية لأهلها. ولغتنا العربية مجمدة، تحوم منذ نحو ألف سنة حول ذاتها، لم تستطع أن تتحرر في يوم من عمقها القبلي وطبيعتها الصحراوية العنيفة النازحة نحو التطرف، هذا دون أن ننفي الناحية الجمالية الخلابة للغة وامكانياتها العالية في أن تكون اللغة الأدبية الأولى في حال ما أدخلت الاصلاحات المطلوبة.
وتقف الحجة الدينية كعائق أساسي أمام تطوير اللغة باعتبارها لغة القرآن المقدسة التي يخشى عليها أصحابها ان أصابها التغيير والتطوير أن ينعزل بعدها القرآن كنص أثري لا يستطيع ‘المعاصرون’ فهمه. الا أن ما يخشاه أصحاب هذا الرأي هو حتماً ما يتحقق بتمسكهم بكلاسيكية لغوية لا تتواكب والعصر الحديث. يعتقد العرب والمسلمون أن القرآن الكريم هو النص الديني الوحيد الذي يؤمن أصحابه بعصمته من أي تغيير أو تحريف، ومن هنا يستشعرون واجبا بحماية اللغة المستخدمة في النص مواكبة لفكرة الثبات اللغوي تلك. الا أن الحي لا يثبت، واذا أردنا للغتنا أن تكون حية، فعلينا أن نلحقها بالعصر ومتطلباته وعقلية ونفسية أهله. ولربما كتب ‘الفيدا’ الهندية القديمة، والتي تعتبر أقدم نصوص دينية بشرية، هي المثال الأفضل على ذلك. يعتقد البرهمانيون أن’الفيدا’ كتب معصومة من التحوير، وأن أي محاولة تغيير بسيطة فيها ستؤدي الى اختلال كوني عظيم. هذه الكتب مكتوبة ‘بالسانسكريتية’ القديمة، وهي لغة قد اندثرت الآن، لا تستخدم وليس لها أي ظهور سوى في هذه الكتب القديمة. وهكذا، انجلت محاولات البراهمانيين في المحافظة على كتبهم المقدسة عن طريق تطويق اللغة وحبسها داخل قالبها الزمني، الى فقد لهذه اللغة وعزل لكتبها.
وعليه، تحتاج اللغة العربية، لننقذها من هذا المصير، الى دفعة تغيير جريئة وقوية، الى شيء من التواضع في استقبال ألفاظ من لغات أخرى وتعريبها، فمن غير المعقول أن يبقى ترجمة ‘سندويش’ هي ‘شاطر ومشطور وبينهما طازج’، ومن غير العملي أن نسمي ‘الكمبيوتر’ باسم ‘الحاسوب’ وكأننا تلك التي تصر على تسمية حفيدها باسم قديم، في حين يناديه كل من في البيت باسمه العصري. تجدر الاشارة هنا الى أن أحد أهم مميزات الحضارات الاغريقية والرومانية بل والفارسية وحضارات بلاد الرافدين، هي تقبل هذه الحضارات واستقبالها لعلوم وفنون ولغات الآخرين، لذا، استمرت هذه الحضارات وتطورت، في حين أن الحضارة المصرية التي كانت تصر على الثبات والاستمرارية التقاليدية في كل أمورها، مما أبقاها حضارة متشابهة مقاومة لكل المتغيرات لما يزيد على الأربعة آلاف سنة، انتهت وفنت ولم يبق لها استمرارية واضحة كتلك الحضارات المذكورة قبلها.
وأعود الى نقطتي الرئيسية فأقول، اذا أردنا أن يتزحزح وضع المرأة عن بؤسه الحالي في الأقطار العربية، على اللغة، من خلال مجمعها اللغوي، أن تتزحزح كذلك عن عنصريتها الجنسية. في هذا الشأن يتحدث المرحوم د. نصر حامد أبوزيد، في كتابه ‘دوائر الخوف’ حول ‘أنثروبولوجية اللغة’ فيقدم شرحاً للكيفية التي تميز بها اللغة العربية ‘على مستوى بنية اللغة وعلى مستوى دلالتها’ بين العربي وغير العربي مما ‘ينبع منه تميز آخر بين ‘المذكر’ و’المؤنث” في الأسماء العربية. وهو تمييز يجعل الاسم العربي المؤنث مساوياً للإسم الأعجمي من حيث القيمة التصنيفية’ (30). هذا التمييز له نتائج خطيرة، يقول د. أبو زيد، حيث أنه ‘في هذه التسوية بين المؤنث العربي والمذكر الأعجمي نلاحظ أن اللغة تمارس نوعاً من الطائفية العنصرية لا ضد الأغيار فقط، بل ضد الأنثى من نفس الجنس كذلك، وهذا أمر سنلاحظ امتداداً له على مستوى الخطاب السائد المعاصر، حيث تعامل المرأة معاملة ‘الأقليات’ من حيث الاصرار على حاجتها للدخول تحت ‘حماية’ أو ‘نفوذ’ الرجل’ (30-31). هذا، وتستمر اللغة في تمييزها كما يقول الدكتور ‘من خلال ثنائية المذكر/المؤنث’، ولأن الغلبة هي للمذكر الذي ينظر له على أنه الأصل ‘تصر اللغة العربية على أن يعامل الجمع اللغوي معاملة ‘جمع المذكر’ حتى ولو كان المشار اليه بالصيغة جمعاً من النساء بشرط أن يكون بين الجمع رجل واحد. هكذا يلغي وجود رجل واحد مجتمعاً من النساء، فيشار اليه بصيغة جمع المذكر لا بصيغة جميع المؤنث’ (31). كيف يمكن للغة كفتاها مختلتان بهذه الصورة ان توازن فكرياً بين نصفي المجتمع من مستخدميها؟
يشير د. أبو زيد الى لغة القرآن التي خاطبت النساء كما خاطبت الرجال لتثبيت ‘وعي جديد غير مسبوق’ (36)، وعي اختفى بعد عصر القرآن في زمن يبدو أنه أخذ يتحرك عكس عقارب الساعة، فانعكست ارتدادات حركته العكسية في كل زواريب الحياة. يقول د أبو زيد:
‘في عصور التأخر والانحطاط يتم اخفاء ‘النساء شقائق الرجال’ ويتم اعلان ‘ناقصات عقل ودين’. ويتحول تحريم اللقاء الجنسي خلال فترة ‘الحيض’ الى تحريم الحديث معها ومشاركتها الطعام عوداً الى محرمات ‘التابو’ الاسطورية. ويتم استدعاء قصة خروج آدم من الجنة في صيغتها التوراتية، حيث تتوحد حواء بالحية والشيطان. ويتم انتاج خطاب يعزف على نغمات التخلف، التي تتجاوب معها سينما الشباك والاثارة والتجارة في عناوين وأفيشات مثل ‘الشيطان إمرأة’. ومن النص القرآني يقف تراث التخلف عند ‘كيدهن عظيم’ ليجعل من الكيد صفة ملازمة للمرأة من حيث هي أنثى، وذلك بعد أن يلقي في ‘الحب’ بكل دلالات القصة- قصة يوسف وأبعادها الرمزية’. (37).
لربما يلقي الدكتور أبو زيد، في هذا المقطع الأخير، باللائمة على العصر المتخلف الذي يخفي ويعلن من اللغة ما يريد، ولربما ألقي انا باللوم على اللغة القديمة التي ترفض التجديد بكل ما تحمله من اعلاء للرجل وتمجيد للعصبيات وتعظيم للعنف، لغة يتعدد فيها اسم السيف، ويسمى فيها الذكور بأسماء عنيفة دموية، لغة فيها عشرات الألفاظ لتدلل على ‘الغائط’ وتنكمش فيها الألفاظ التي تدل على التسامح والمحبة والعفو عن الآخرين. وأياً كان مصدر المشكلة، طبيعة اللغة أم زمنها ومستخدميها، فان تغييراً ما لابد أن يحدث، ولابد له أن يحدث سريعاً، قبل أن تختفي اللغة تحت أكوام ألفاظ وأوصاف لم يعد لها مكان في زمننا الحالي، قبل أن يلجأ الجيل الجديد، ان لم يكن قد فعل، الى لغات أخرى أكثر سلاسة ويسرا، وأقل عنصرية وتمييزاً بين الجنسين، فيفقد كل ارتباط له بلغته التي تبقى رائعة وغنية وخلابة الجمال لو أن شبابيكها تتفتح، وأبوابها تشرع للشمس والهواء، يدخلان فناءها فيحييانها ويجددان شبابها.